‏إظهار الرسائل ذات التسميات لـِ محمود درويش. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات لـِ محمود درويش. إظهار كافة الرسائل

أسرجوا الخيل من ديوان " لماذا تركتَ الحصانَ وحيداً " لمحمود درويش

أَسْرَجوا الخَيْلَ ,

( 1 )
لا يَعرفون لماذا
ولكِّنُهمْ أَسْرَجُوا الخيلَ في السهلِ

.. كان المكانُ مُعَدَّاً لِمَوْلِدِه : تلَّةً
من رياحين أَجداده تَتَلَفَّتُ شرقاً وغرباً
وزيتونهً قُرْبَ زيتونه في المَصاحف تُعْلي سُطُوح اللُغَةْ ...
ودخاناً من اللازَوَرْدِ يُؤَثِّثُ هذا النهارَ لمسْأَلةٍ
لا تخصُّ سِوى الله . آذارُ طفلُ
الشهور المُدَلَّلُ . آذارُ يُؤلِمُ خبيز لِفناء الكنسيةِ
آذارُ أَرضٌ لِلَيْلِ السنون , ولا مرآةٍ
تَسْتَعدُّ لصرخَتَها في البراري... وتمتدُّ في
شَجَرِ السنديانْ .

يُولَدُ الآنَ طفلٌ
وصرختُهُ ,
في شقوق المكانْ

اِفتَرقْنا على دَرَجِ البيت . كانوا يقولونَ:
في صرختي حَذَرٌ لا يُلائِمُ طَيْشَ النباتاتِ ,
في صرختي مَطَرٌ ؛ هل أَسأَتُ إِلى إخوتي
عندما قلتُ إني رأَيتُ ملائكةٌ يلعبون مع الذئب في باحة الدار ؟
لا أَتذكَّرُ
أَسماءَهُمْ . ولا أَتذكَّرُ أَيضاً طريقَتَهُمْ في
الكلام ... وفي خفِّة الطيرانْ

( 2 )

أَصدقائي يرفّون ليلاً , ولا يتركونْ
خَلْفَهُمْ أَثَراً . هل أَقولُ لأُمِّي الحقيقةَ :
لِي إخوةٌ آخرونْ
إخوةٌ يَضَعُونَ على شرفتي قمراً
إخوةٌ ينسجون بإبرتهم معطفَ الأُقحوانْ

أَسْرَجُوا الخيلَ
لا يعرفون لماذا ,
ولكنهم أَسرجوا الخيل في آخر الليلِ

سَبْعُ سنابلَ تكفي لمائدة الصَيْف . 
أَبيض يَسْحَبُ الماءَ من بئرِهِ ويقولُ
لهُ : لا تجفَّ . ويأَخذني من يَدي
لأَرى كيف أكبُرُ كالفَرْفَحِينَة...
أَمشي على حافَّة البئر : لِيَ قَمَرانْ
واحدٌ في الأعالي
وآخرُ في الماء يسبَحُ ... لِي قمرانْ

واثَقيْن , كأسلافهِمْ , من صَوَابِ
الشرائع ... سَكُّوا حديدَ السيوفِ
محاريثَ . لن يُصْلِحَ السيوفِ ما
أفْسَدَ الصَّيْفُ – قالوا وصَلُّوا
طويلاً . وغَنّوا مدائحَهمْ للطبيعةِ ...
لكنهم أَسرجوا الخيل ,
كي يَرْقُصُوا رَقْصَةَ الخيلِ ,
في فضَّة الليل ...

تَجْرحُني غيمةٌ في يدي : لا

( 3 ) 
أُريدُ من الأَرض أَكثَرَ مِنْ
هذه الأَرضِ : رائحة الهالِ والقَشِّ
بين أَبي والحصانْ .
في يدي غيمةٌ جَرَحْتني . ولكنني
لا أُريدُ من الشمس أَكثَرَ
من حَبَّة البرتقال وأَكثرَ منْ
ذَهَبٍ سال من كلمات الأذانْ

أَسْرَجُوا الخَيْلَ ,
لا يعرفون لماذا ,
ولكنهُمْ أسرجوا الخيل
في آخر الليل , وانتظروا
شَبَحاً طالعاً من شُقوق المكانْ ....

( * ) من ديوان
 " لماذا تركتَ الحصانَ وحيداً "

 

مزامير من ديوان "أحبك أو لا أحبك" لمحمود درويش

 مزامير
 
يومَ كانتْ كلماتي

تربةً..

كنتُ صديقاً للسنابلْ

يومَ كانت كلماتي

غضباً..

كنتُ صديقاً للسلاسل

يوم كانت كلماتي

حجراً ..

كنتُ صديقاً للجداول

يومَ كانت كلماتي

ثورةً ..

كنتُ صديقاً للزلازل

يوم كانت كلماتي

حنظلاً..

كنتُ صديقَ المتفائل

حين صارت كلماتي

عسلاً ..

غطَّى الذباب

شفتيَّ  ..



(من ديوان "أحبك أو لا أحبك" 1972) 

 

محمود درويش: إلى شاعر عراقي

إلى شاعرٍ عراقي ...

( 1 )
أُعِدُّ لأَرْثيكَ , عِشْرينَ عاماً مِنْ الحُبِّ , كُنْتُ وَحَيداً هناكَ تُؤَثِّثُ مَنْفى لسَيَّدَةِ الزَّيْزَفُونِ , وبَيْتا ,,, لِسَيِّدِنا في أعالي الكَلامِ .
تَكَلَّمْ لِنَصْعَدَ أَعْلى..وَ أَعْلَى ... وَأَعْلى ...
على سُلَّمِ الْبِئْرِ , يا صاحِبي , أَينَ أَنتَ ؟
تَقَدَّمْ لأَحْمِلَ عنكَ الكَلامَ .. وأَرْثيك /

... لو كانَ جِسْراً عَبَرْناهُ , لكنَّه الدَّارُ والهاوَية
وللقَمَر البابِليِّ على شَجَرِ اللَّيلِ مَمَلَكَةٌ لَمْ تَعُدْ
لَنا , مُنْذُ عادَ التَّتارُ على خَيْلِنا
والتَّتارُ الجُدُدْ يَجُرُّونَ أَسْماءَنا خَلْفَهُم في شَعابِ الجِبالِ , ويَنْسَونْنا
وَيَنْسَوْنَ فينا نَخيلاً ونَهْرَيْنِ :
 يَنْسَوْنَ فينا العِراقْ

أَما قُلْتَ لي في الطَّريقِ إلى الرِّيحِ :
عَمَّا قَليل سَنَشْحَنُ تاريخَنا بالمَعاني ,
وَتَنْطَفِئُ الحَربْ عمَّا قَليل
وَ عمَّا قَليل نُشَيِّدُ سُومَرَ , ثانِيَةً , في الأَغاني
وَنَفْتَحُ بابَ المَسارحِ للنَّاسِ والطَّيْرِ مِن كلّ جِنْسِ ؟
وَنَرْجِعُ مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ بِنا الرِّيح .../
(.... )

لَنا غُرَفٌ في حَدائِقِ آبَ , هُنا في البِلادِ الَّتي

( 2 )
تُحِبُّ الكِلابَ وتَكْرَهُ شَعْبْكَ واسْمَ الْجَنوبِ
لَنا بَقايا نِساءٍ طُردْنَ مِنْ الأُقْحُوانِ
لَنا أَصْدِقاءُ من الغَجَرِ الطَّيِّبينَ .
لَنا دَرَجُ الْبَارِ .
رامبو لَنا ,ولنا رَصيفٌ مِنَ الكَستَنْاءِ .
لَنا تكنولوجيا لِقَتْلِ الْعِراق

تَهُبُّ جَنُوبيّةٌ ريحُ مَوْتاكَ , تَسْأَلُني :
هَلْ أَراك ؟
أَقولُ : تَراني مساءً قَتيلاً على نَشْرَةِ الشَّاشَةِ الْخامِسَة
فَما نَفْعُ حُرِّيَّتي يا تَماثيلَ رودانَ ؟
لا تَتَساءَلْ , ولا تُعَلِّقْ على بَلَحِ النَّخْلِ ذاكرَتي جَرَساً .
قَدْ خَسِرْنا مَنافِينا مُنْذُ هَبَّتْ جَنوبِيَّةَ ريحُ مَوْتاك.../

.... لا بُدَّ مِنْ فَرَسٍ لْغَرِيبِ ليَتْبَعَ قَيْصَرَ , أَوْ
ليَرْجِعَ مِنْ لَسْعَةِ النَّايِ .
لاَ بُدَّ مِنْ فَرَسٍ للغَريبْ
أَما كانَ في وُسْعِنا أَنْ نَرى قَمَراً وَاحِداً لا يَدُلُّ
على امْرَأَةٍ ما ؟
أَما كان في وُسْعِنا أَنْ نُمَيِّزَ بَيْنَ البَصيرَةِ ,
يا صاحِبي , والبَصَرْ ؟

( 3 )
لَنا ما عَلَيْنا من النَّحْلِ وَالمُفْرداتِ .
خُلِقْنا لِنَكْتُبَ عَمَّا يُهَدِّدُنا مِنْ نساءٍ وَقَيْصَرَ ..
والأَرْضِ حِينَ تَصيرُ لُغَةْ ,
وَعَنْ سِرٍّ جلَجامشَ الْمُستَحيلِ , لِنَهْرُبَ مِنْ عَصْرِنا إِلى أَمْسِ خَمْرَتِنا الذَّهَبيِّ ذَهَبْنَا ,
وَسِرنْا إلى عُمْرِ حِكْمَتنا
وكانت أَغاني الحَنينِ عِراقّيَةً ,
 والعِراقُ نَخَيلٌ وَنَهْرانَ .../

... لِي قَمَرٌ في الرَّصافَةِ .
لِي سَمَكٌ في الفُراتِ ودِجْلَةْ
ولِي قارِئٌ في الجَنُوبِ , ولِي حَجَرُ الشَّمْسِ في نَيْنَوى ونَيْروزُ لِي في ضَفائِرِ كُرديّةٍ في شَمالِ الشَّجَنْ ...
ولِي وَرْدَةٌ فِي حَدائِقَ بابِلَ .
لي شاعِرٌ في بُوَيْب,
 ولي جُثَّتي تَحْتَ شَمْسَ العراق
ولا الغَربُ غَرْبٌ , تَوَحَّدَ إِخْوَتُنا في غَريزَةِ قابيلَ , لا تُعاتِبْ أَخاكَ ,
فإِنْ الْبَنَفْسَجَ شاهِدَةُ الْقَبر ..../

... قَبْرٌ لِباريسَ , لُنُدنَ , روما , نيويورك , موسكو , وقبر لِبَغْدادَ , هَلْ كانَ من حَقْها أَن تُصَدِّقُ ماضيَها المُرْتَقَبْ ؟
وَقَبْرٌ لإِيتاكَةِ الدَّرْبِ وَالْهَدَفِ الصَّعْبِ , قَبْرٌ لِيافا ...

( 4 )
وَقَبْرٌ لهِوميِّر أَيْضاً وَ لِلبُحْتُرِيِّ , وَقَبْرٌ هو الشَّعْرُ, قبرٌ من الرِّيحِ ... يا حَجَرَ الرُّوحِ ,
يا صَمْتَنا !
نُصَدِّقُ , كَي نُكْمِلَ التَّيهُ , أَنَ الخَريفَ تَغَيَّرَ فينا .. نَعَمْ , نَحْنُ أَوْراقُ هذا الصَّنَوَبَرِ , نَحْنُ التَّعَب..., وقَدْ خَفَّ , خارِجَ أجسادنا , كالنَّدى ... وَانْسَكَب
نَوارِسَ بيضاءَ , تبحثُ عن شُعَراءِ الْهَواجِس فينا ..
وعَنْ دَمْعَةِ الْعَرَبِيِّ الأَخيرةِ ,
 صَحْراء ... صَحْراء.... /

(....)
ولا صَوْتَ يَصْعَدُ , لا صَوْتَ يَهْبِطُ , بَعْدَ قَليل ..
سَنُفْرِغُ آخِرَ أَلْفاظنا في مَديحِ المَكانِ , وَبَعْدَ قليل سَنَرْنو إلى غَدنا , خَلْفَنا , في حَريرِ الكَلامِ القَديم
وسَوْفَ نُشاهِدُ أَحْلامَنا في المَمَرَّاتِ تَبْحَثُ عَنَّا
وعَنْ نَسْرِ أَعْلامِنا السُّود .../

صَحْراءُ للصَّوْتِ , صَحْراءُ للصَّمْتِ , صَحراء للْعَبَثِ الأَبَديّ
للَوْحِ الشَّرائِعِ صَحْراءُ , للكُتُبِ الْمَدْرَسِيَّةِ , للأَنبِياء وللَعُلَماءْ

( 5 )
لَشيكسبير صَحْراءُ , للباحِثينَ عنِ الله في الكائنَ الآدَمِيّ
هُنا يَكْتُبُ العَرَبيُّ الأَخِيرُ : أَنَا العَرَبِيُّ الَذي لَمْ يَكُنْ
أَنَا العَرَبِيُّ الَذي لَمْ يَكُنْ

قُلِ الآنِ إِنْكَ أَخْطَأْتَ , أَو لا تَقُلْ
فَلَنْ يَسْمَعَ المَيتونَ اعْتذارَكَ منهم , ولَنْ يَقْرَؤوا
مَجَلاّتِ قاتِلِهمْ كَيْ يَرَوْا ما يَرَوْنَ , ولن يَرْجعِوا إِلى الْبَصْرَةَ الأَبَدِيةِ كَيْ يَعْرِفوا ما صَنَعْتَ بأُمِّك ,
حِينَ انْتَبَهْتَ إلى زُرْقَةِ الْبَحْر .../
(....)

سَأُولَدُ مِنْكَ وَتُولَدُ مِنّي . رُوَيْداً  رُوَيْداً سأَخْلَعُ عَنْك أصابعَ مَوتايَ , أَزْرارَ قُمصانهمْ.
وبطاقاتِ ميلادهمْ وتخلعُ عنيِّ رسائلَ مَوْتاكَ للْقُدْس , ثُمَ نُنَظِّفُ نظَّرَتَيْنا من الدمِ , يا صاحِبي , كَيْ نُعيدَ قِراءَةَ كافْكا ونَفْتَحَ نافِذَتَيْنِ على شارِعِ الظِّلّ .../
... في داخِلي , لا تُصَدِّقْ دُخانَ الشِّتاءِ كثيراً
فعمَّا قليل سَيَخْرُجُ إِبْريلُ مِنْ نَوْمِنا , خارِجي داخِلي فلا تَكْتَرِثْ بِالتَّماثيلِ ... سَوْفَ تُطَرِّزُ بِنْتٌ عِراقيِّةٌ ثَوْبَها بأَوَّلِ زَهْرَةِ لَوْزِ ,
وتَكْتُبُ أَوَّلَ حَرْفٍ مِنَ اسْمِكَ
على طَرَف السَّهْمِ فَوْقَ اسْمِها ....
في مَهَبِّ الْعِراق ..

(من ديوان " أَحد عشر كوكباً " 1992)

 

تعاليم حُوريَّة من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا"

تعاليم حُوريَّة *

 (1)
*
فَكَّرتُ يَوماً بالرحيل , فحطّ حَسُّونٌ على يدها ونام .
وكان يكفي أَن أُداعِبَ غُصْنَ داليَةٍ على عَجَلٍ ... لتُدْركَ أَنَّ كأس نبيذيَ امتلأتْ .
ويكفي أَن أنامَ مُبَكَّراً لَتَرى مناميَ واضحاً , فتطيلُ لَيْلَتَها لتحرسَهُ ...
 ويكفي أَن تجيء رسالةً منّي لتعرِف أَنْ عنواني تغّير , فوق قارِعَةِ السجون ,
 وأَنْ أَيَّامي تُحوِّمُ حَوْلَها ... وحيالها

**
أُمِّي تَعُدُّ أَصابعي العشرينَ عن بُعْد .
تُمَشِّطُني بخُصْلَّة شعرها الذَهَبيّ
تبحثُ في ثيابي الداخلّيةِ عن نساءٍ أَجنبيَّاتٍ وَتَرْفُو جَوْريي المقطوعَ .
لم أَكَبْر على يَدِها كما شئنا :
 أَنا وَهي , افترقنا عند مُنحَدرِ الرَّخام ... ولوَّحت سُحُبً لنا , ولماعزِ يَرِثُ المَكَانَ .
وأَنْشَأَ المنفى لنا لغتين :
دارجةُ ... ليفهمَهَا
الحمامُ ويحفظَ الذكرى , وفُصْحى ...
كي أُفسِّرَ للظلال ظِلالَهَا !

(2)
***
ما زلتُ حيَّا في خِضَمَّكِ .
لم تَقُول الأُمُّ للوَلَدِ المريضِ مَرِضْتُ من قَمَرِ النحاس على خيامِ البْدوِ .
هل تتذكرين طريق هجرتنا إلى لبنانَ , حَيْثُ نسيتني ونسيتِ كيسَ الخُبْزِ
 [ كانَ الخبزُ قمحيَّاً ] ولم أَصرخْ لئلاّ أُوقظَ الحُرَّاسَ حَطَّتْني على كَتِفْيكِ رائحةُ الندى .
يا ظَبْيَةُ فَقَدَتْ هُناكَ كنَاسَها وغزالها ...
عَجَنْت بالحَبَقِ الظهيرةَ كُلَّها .
وَخَبَزْتِ للسُّمَّاقِ عُرْفَ الديك .
أَعرِفُ ما يُخَرَّبُ قلبَك المَثّقُوبَ بالطاووس , مُنْذُ طُرِدْتِ ثانيةً من الفردوس .
عالُنا تَغَيَّر كُّلَّهُ فتغيرتْ أَصواتُنا حتَى التحيَّةُ بَيننا وَقَعَتْ كزرِّ الثَوْبِ فوق قولي أَيَّ شيء لي لتَمنَحني الحياةُ دَلالَها .

****
هي أُختُ هاجَرَ أُختُها من أُمِّها .
تبكي مع النايات مَوْتى لم يموتوا .
لا مقابر حول خيمتها لتعرف كيف تَنْفَتِحَ السماءُ ولا ترى الصحراءَ خلف أَصابعي لترى حديقَتَها على وَجْه السراب , فيركُض الزَّمَنُ القديمُ بها إلى عَبَثٍ ضروريِّ :
 أَبوها طار مثل الشَرْكَسيِّ على حصان العُرسْ

(3)
أَمَّا أُمها فلقد أَعَدَّتْ , دون أن تبكي لِزَوْجَة
زَوْجِها حناءَها , وتفحَّصَتْ خلخالها ...

*****
لا نلتقي إلاَّ وداعاً عند مُفْتَرَقِ الحديث .
تقول لي مثلاً :
 تزوجَّ أَيَّةَ امرأة مِنَ الغُرباء , أَجملُ من بنات الحيِّ , لكنْ لا تُصَدِّقْ أَيَّةَ امرأة سواي .
ولا تُصَدِّقْ ذكرياتِكَ دائماً .
لا تَحْتَرِقْ لتضيء أُمَّكَ , تلك مِهْنَتُها الجميلةُ.
لا تحنُّ إلى مواعيد الندى .
كُنْ واقعيَّاً كالسماء .
ولا تحنّ إلى عباءة جدِّكَ السوداء , أَو رَشَوَاتِ جدّتك الكثيرةِ وانطلِقْ كالمُهْرِ في الدنيا .
وكُنْ مَنْ أَنت حيثَ تكون .
واحَملْ عبء قلبِكَ وَحْدَهُ ...وارجع إذا اتسَعَتْ بلادُكَ للبلاد وغيَّرتْ أَحوالهَا ...

(من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" 1995)

سماء منخفضة من ديوان "سرير الغريبة" لمحمود درويش

سماء منخفضة *

هُنَالِكَ حُبٌ يسيرُ على قَدَمَيْهِ الحَرِيرِيَّتَيْن
سعيداً بغُرْبَتِهِ في الشوارع ,
حُبٌّ صغيرٌ فقيرٌ يُبَلِّلُهُ مَطَرٌ عابرٌ
فيفيض على العابرين :
" هدايايَ أكبرُ منّي
كُلُوا حِنْطَتي
واشربوا خَمْرَتي
فسمائي على كتفيّ وأرضي لَكُمْ " ...
هَلْ شمَمْتِ دَمَ الياسمينِ المُشَاعَ
وفكّرْتِ بي
وانتظرتِ معي طائراً أَخضرَ الذَيْلِ
لا اسْمَ لَهُ ؟

هُنَالكَ حُبٌّ فقيرٌ يُحدِّقُ في النهر
مُسْتَسْلِماً للتداعي : إلى أَين تَرْكُضُ
يا فَرَسَ الماءِ ؟
عما قليل سيمتصُّكَ البحرُ
فامش الهوينى إلى مَوْتكَ الاختياريِّ ,
يا فَرَسَ الماء !

 هل كنتش لي ضَفَّتَينْ
وكان المكانُ كما ينبغي أن يكون
خفيفاً خفيفاً على ذكرياتِكِ ؟
أيَّ الأغاني ؟ أَتلك التي
تتحَّدثُ عن عَطَشِ الحُبِّ .
أَمْ عن زمانٍ مضى ؟


هنالك حُبّ فقير , ومن طَرَفٍ واحدٍ هادئٌّ هادئٌّ لا يُكَسِّرُ
بِلَّوْرِ أَيَّامِكِ المُنْتَقَاةِ
ولا يُوقدُ النارُ في قَمَرٍ باردٍ
في سريرِكِ ,
لا تشعرينَ بهِ حينَ تبكينَ من هاجسٍ ,
رُبَّما بدلاٍ منه ,
لا تعرفين بماذا تُحسِّين حين تَضُمِّينَ
نَفسَكِ بين ذراعيكِ !
أَيَّ الليالي تريدين ؟ أَي الليالي ؟
وما لوْنُ تِلْكَ العيونِ التي تحلُمينَ
هُنْالكَ حُبٌّ فقيرٌ , ومن طرفين
يُقَلِّلُ من عَدَد اليائسين
ويرفَعُ عَرْشَ الحَمَام على الجانبين .
عليك , إِذاً أَن تَقودي بنفسك هذا الربيعَ السريعَ إلى مَنْ تُحبّينَ
أَيَّ زمانٍ تريدين ؟ أَيَّ زمان ؟
لأُصبحَ شاعرَهُ , هكذا هكذا : كُلّما
مَضَتِ امرأةٌ في السماء إلى سرِّها
وَجَدَتْ شاعراً سائراً في هواجسها .
كُلَّما غاص في نفسه شاعرٌ
وَجَدَ امرأةً تتعرَّى أمام قصيدتِهِ ..

أَيّ منفىً تريدينَ ؟
هل تذهبين معي أَمْ تسيرين وَحْدَكِ
في اسْمك منفىً يُكَلَّلُ منفّى
بِلأْلاَئِهِ ؟

هُنالِكَ حُبٌّ يَمُرُّ بنا ,
دون أَن نَنْتَبِهْ ,
فلا هُوَ يَدْري ولا نحن نَدْري
لماذا تُشرِّدُنا وردةٌ في جدارٍ قديم
وتبكي فتاةٌ على مَوْقف الباص ,
تَقْضِمُ تُفَّاحةً ثم تبكي وتضحَكُ ؟
" لا شيءَ , لا شيءَ أكثر
من نَحْلَةٍ عَبَرتْ في دمي ..
هُنَالكَ حُبٌّ فقيرٌ , يُطيلُ
التأَمُّلَ في العابرين , ويختارُ
أَصغَرَهُمْ قمراً : أَنتَ في حاجةٍ
لسماءٍ أَقلَّ ارتفاعاً ,
فكن صاحبي تَتَّسعْ
لأَنانيَّةُ اثنين لا يعرفان
لمن يُهْدِيانِ زُهُورَهُما ...
ربَّما كان يَقْصِدُني , رُبَّما
كان يقصدُنا دون أَن نَنْتَبِهْ

هُنَالِكَ حُبّ ... *

( من ديوان "سرير الغريبة" 1999)

 

عندما يبتعد من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا"

عندما يبتعد *

 للعدُوُّ  الذي يشربُ الشايَ
في كوخنا فَرَسٌ في الدخَانِ
وبنْتٌ لها حاجبانِ كثيفانِ ,
عينانِ بُنيتان , وشَعَرُ طويلٌ كَلَيْلِ الأغاني على الكتِفْينِ .
وصورَتُها لا تفارقُهُ كُلَّما جاءنا يطلُبُ الشاي
لكنَّهُ لا يُحَدَثُنا عن مشاغلها في المساء , وعَنْ فَرَسٍ تَرَكَتْهُ الأَغاني على قمَّة التَلِّ ..../
*... في كوخنا يستريحُ العَدُوُّ من البُندقيّة ,
مثلما يفعَلُ الضيفُ . يغفو قليلاً على مقعد الخَيْزُرانِ , ويحنُو على فَرْوِ قطْتنا , ويقولُ لنا دائماً :
لا تلوموا الضحيَّة َ!
نسأَلُهُ : مضنْ هيَ ؟
فيقولُ : دَمٌ لا يُجَفِّفُهُ الليلُ .../
* ... تلمعُ أَزرارُ سُتْرَتِهِ عندما يبتعدْ
عِمْ مساءً ! وسَلِّمْ على بئرنا
وعلى جِهَةِ التين . وامشِ الهُوَيْنَى على
ظلَّنا في حقول الشعير . وسَلِّمْ على سَرْونا في الأَعالي . ولا تَنْسَ بَوَّابةَ البيتِ مفتوحةً في الليالي .
 ولا تَنْسَ خَوْفَ الحصان من الطائراتِ
وسَلِّمْ علينا , هُنَاكَ إِذا اتَّسعَ الوقتُ .../
هذا الكلامُ الذي كان في وُدِّنا
أَن نَقولَ على الباب ... يَسْمَعُهُ جيِّداً جَيِّداً ,
ويُخَبِّئُهُ في السُّعال السريع
ويُلْقي به جانباً
فلماذا يزور الضحيَّة كُلَّ مساءٍ ؟
ويحفَظُ أَمثالنا مِثْلَنا ,
ويُعيدُ أَناشيدَنا ذاتها ,
عن مواعيدنا ذاتها في المكان المُقَدَّسِ ؟
لولا المسدسُ
لاختلطَ النايُ في النايِ .../
*... لن تنتهي الحربُ ما دامت الأرضُ فينا تدورُ على نفسها ! فلنَكُنْ طَيِّبين إِذا كان يسألُنا أَن نكونَ هنا طَيِّبينَ .
ويقرأُ شِعراً لطيّار " ييتْس" : أَنا لا
أُحبُّ الذينَ أُدافعُ عنهُم , كما أَنني لا أُعادي الَذينَ أُحاربُهمْ ...
ثم يخرجُ من كوخنا الخشبيِّ ,
ويمشي ثمانينَ متراً إلى
بيتنا الحجريِّ هناك على طَرَفِ السَّهْلِ .../
* سَلِّمْ على بيتنا يا غريبُ .
فناجينُ قهوتنا لا تزال على حالها , هل تَشُمُّ أَصابعَنَا فوقها ؟
هل تقولُ لبنتك ذات الجديلةِ والحاجبينِ الكثيفينِ إِنَّ لها صاحباً غائباً ,
يتمنَّى زيارَتَها , لا لِشيْءٍ ...
ولكنْ ليدخل مِرْآتَها ويرى سرَّهُ :
كيف كانت تُتَبَعُ من بعده عُمْرَهُ
بدلاً مِنه ؟ سَلِّمْ عليها
إِذا اتسَّعَ الوقتُ .../
*هذا الكلامُ الذي كان في وُدِنِّا

(من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" 1995)
 

غريب في مدينة بعيدة من ديوان "العصافير تموت في الجليل"

غريب في مدينة بعيدة

عندما كنتُ صغيراً
وجميلاً
كانت الوردة داري
والينابيع بحاري
صارت الوردةُ جرحاً
والينابيع ظمأ
- هل تغيَّرت كثيراً ؟
- ما تغيَّرتُ كثيراً
عندما نرجع كالريح
إلى منزلنا
حدِّقي في جبهتي
تجدي الورد نخيلا
والينابيع عرق
تجديني مثلما كنتُ
صغيراً
وجميلاً..

(من ديوان "العصافير تموت في الجليل" 1969)

 

في يدي غيمة من كلمات محمود درويش

في يدي غيمة

 أَسْرَجوا الخَيْلَ ,
لا يَعرفون لماذا
ولكِّنُهمْ أَسْرَجُوا الخيلَ في السهلِ

.. كان المكانُ مُعَدَّاً لِمَوْلِدِه : تلَّةً
من رياحين أَجداده تَتَلَفَّتُ شرقاً وغرباً
وزيتونهً قُرْبَ زيتونه في المَصاحف تُعْلي سُطُوح اللُغَةْ ...
ودخاناً من اللازَوَرْدِ يُؤَثِّثُ هذا النهارَ لمسْأَلةٍ
لا تخصُّ سِوى الله . آذارُ طفلُ
الشهور المُدَلَّلُ . آذارُ يُؤلِمُ خبيز لِفناء الكنسيةِ
آذارُ أَرضٌ لِلَيْلِ السنون , ولا مرآةٍ
تَسْتَعدُّ لصرخَتَها في البراري... وتمتدُّ في
شَجَرِ السنديانْ .

يُولَدُ الآنَ طفلٌ
وصرختُهُ ,
في شقوق المكانْ

اِفتَرقْنا على دَرَجِ البيت . كانوا يقولونَ:
في صرختي حَذَرٌ لا يُلائِمُ طَيْشَ النباتاتِ ,
في صرختي مَطَرٌ ؛ هل أَسأَتُ إِلى إخوتي
عندما قلتُ إني رأَيتُ ملائكةٌ يلعبون مع الذئب في باحة الدار ؟
لا أَتذكَّرُ
أَسماءَهُمْ . ولا أَتذكَّرُ أَيضاً طريقَتَهُمْ في
الكلام ... وفي خفِّة الطيرانْ

أَصدقائي يرفّون ليلاً , ولا يتركونْ
خَلْفَهُمْ أَثَراً . هل أَقولُ لأُمِّي الحقيقةَ :
لِي إخوةٌ آخرونْ
إخوةٌ يَضَعُونَ على شرفتي قمراً
إخوةٌ ينسجون بإبرتهم معطفَ الأُقحوانْ

أَسْرَجُوا الخيلَ
لا يعرفون لماذا ,
ولكنهم أَسرجوا الخيل في آخر الليلِ

سَبْعُ سنابلَ تكفي لمائدة الصَيْف . 
أَبيض يَسْحَبُ الماءَ من بئرِهِ ويقولُ
لهُ : لا تجفَّ . ويأَخذني من يَدي
لأَرى كيف أكبُرُ كالفَرْفَحِينَة...
أَمشي على حافَّة البئر : لِيَ قَمَرانْ
واحدٌ في الأعالي
وآخرُ في الماء يسبَحُ ... لِي قمرانْ

واثَقيْن , كأسلافهِمْ , من صَوَابِ
الشرائع ... سَكُّوا حديدَ السيوفِ
محاريثَ . لن يُصْلِحَ السيوفِ ما
أفْسَدَ الصَّيْفُ – قالوا وصَلُّوا
طويلاً . وغَنّوا مدائحَهمْ للطبيعةِ ...
لكنهم أَسرجوا الخيل ,
كي يَرْقُصُوا رَقْصَةَ الخيلِ ,
في فضَّة الليل ...

تَجْرحُني غيمةٌ في يدي : لا

أُريدُ من الأَرض أَكثَرَ مِنْ
هذه الأَرضِ : رائحة الهالِ والقَشِّ
بين أَبي والحصانْ .
في يدي غيمةٌ جَرَحْتني . ولكنني
لا أُريدُ من الشمس أَكثَرَ
من حَبَّة البرتقال وأَكثرَ منْ
ذَهَبٍ سال من كلمات الأذانْ

أَسْرَجُوا الخَيْلَ ,
لا يعرفون لماذا ,
ولكنهُمْ أسرجوا الخيل
في آخر الليل , وانتظروا
شَبَحاً طالعاً من شُقوق المكانْ ....
 

(من ديوان " لماذا تركتَ الحصانَ وحيداً " 1995)

 

درس من كاما سوطرا لمحمود درويش

درس من كاما سوطرا *

بكأس الشراب المرصَّع باللازوردِ
انتظرْها ,
على بركة الماء حول المساء وزَهْر الكُولُونيا انتظرْها ,
بذَوْقِ الأمير الرفيع البديع
انتظرْها ,
بسبعِ وسائدَ مَحْشُوَّةٍ بالسحابِ الخفيفِ
انتظْرها ,
بنار البَخُور النسائِّي ملءَ المكانِ
انتظْرها ,
برائحة الصَّنْدَلِ الَّذكَريَّةِ حول ظُهُور الخيولِ
انتظْرها ,
ولا تتعجَّلْ , فإن أقبلَتْ بعد موعدها
فانتظْرها ,
وإن أقبلتْ قبل موعدها
فانتظْرها ,
ولا تُجفِل الطيرَ فوق جدائلها
وانتظْرها ,
لتجلس مرتاحةً كالحديقة في أَوْجِ زِينَتِها
وأَنتظْرها ,
لكي تتنفَّسَ هذا الهواء الغريبَ على قلبها
وانتظْرها ,
لترفع عن ساقها ثَوْبَها غيمةٌ غيمةٌ
وانتظْرها ,
وخُذْها إلى شرفة لترى قمراً غارقاً في الحليبِ

انتظْرها ,
وقَّدمْ لها الماءَ , قبل النبيذِ , ولا
تتطَّلعْ إلى تَوْأَمْي حَجَلٍ نائميْن على صدرها
وانتظْرها ,
ومُسَّ على مَهَل يَدَها عندما
تَضَعُ الكأسَ فوق الرخام
كأنَّكَ تحملُ عنها الندى
وانتظْرها ,
تحَّدثْ إليها كما يتحدَّثُ نايٌ
إلى وَتَرِ خائفٍ في الكمانِ
كأنكما شاهدانِ على ما يُعِدُّ غَدٌ لكما
وانتظْرها ,
ولَمِّع لها لَيْلَها خاتماً خاتماً
وانتظْرها ,
إلى أَن يقولَ لَكَ الليلُ :
لم يَبْقَ غيرُكُما في الوجودِ
فخُذْها , بِرِفْقٍ , إلى موتكَ المُشتْهَى
وانتظْرها ! ... *

( من ديوان "سرير الغريبة" 1999)
 

خطبة الهندي الأحمر من ديوان ... " أحد عشر كوكباً "

خطبة " الهندي الأحمر "

- ما قبل الأخيرة –
أمام الرجل الأبيض *

" هَل قُلْتُ مَوْتى
لا مَوْتَ هناك
هناك فقط تبديلُ
عوالم " ,,, 

سياتل زعيم دواميش

( * ) من ديوان ...
" أحد عشر كوكباً "
1992 .

( 1) .
إِذاً , نَحْنُ مَنْ نَحْنُ في السيسيِبّي .
لَنا ما تَبَقَّى لَنا مِنَ الأَمْسِ /
 لكِنَّ لَوْنَ السَّماءِ تَغَيَّرَ , وَالبْحرَ شَرْقاً , تَغَيَّرَ , يا سَيِّدَ الْبِيضِ ! يا سَيِّدَ الخَيْلِ , ماذا تُريدُ مِنَ الذَّاهبِينَ إِلى شَجَرِ اللَّيْل ؟/
عالِيَةٌ روحُنا , وَالمْراعي مُقَدَّسَةٌ , وَالنّجومْ كَلَامٌ يُضيءُ ... إِذا أَنْتَ حَدَّقْتَ فيها      قَرَأتَ حكايتَنَا كُلَّها :
وُلِدْنا هُنا بَيْنَ ماءٍ وَنارٍ .. ونُولَدُ ثانيَةٌ في الْغُيومْ على حافُة السّاحِلِ اللأَزَوَرْدِيِّ بَعْدَ الْقيامَةِ ... عَمَّا قَليلْ فلا تَقْتُلِ الْعُشْبَ أكْثَرَ , للْعُشْبِ روحٌ يُدافِعُ فينا عَنِ الرّوحِ في الأَرْضِ/
يا سَيِّدَ الخْيَلِ ! عَلِّمْ حِصانَكَ أَنْ يَعْتَذِرْ
لِروحِ الطَّبيعَةِ عَمَّا صَنَعْتَ بِأَشْجارِنا :
آه ! يا أُخْتِيَ الشَّجرةْ
لَقَدْ عَذَّبوك كَما عَذَّبُوني
فلا تطلبي المْغَْفرَةْ
لحطَّابِ أُمي وأُمكْ .../


( 2)...
... لَنْ يَفْهَمَ السَّيِّدُ الأَبْيَضُ الْكَلماتِ الْعتيقَةْ هُنا , في النُّفوسِ الطَّليقَة بَيْنَ السَّماءِ وَبَيْنَ الشَّجَر ...
فَمِنْ حَقِّ كولومبوسَ الْحُرِّ أَنْ يَجِدَ الهِنْدَ في أَيِّ بَحْر , وَمِنْ حَقِّه أَنْ يُسَمِّي أَشْبَاحَنا فُلْفُلاً أَوْ هُنوداً , وَفي وُسْعِهِ أَنْ يُكَسِّرَ بَوْصَلَةَ الْبَحْرِ كَيْ تَسْتَقيمَ وَأَخطاءَ ريحِ الشَّمالِ , وَلكِنَّهُ لا يُصَدِّق أَنَّ البَشَر سَواسيَّةٌ كالْهَواءِ وَ كالَماءِ خارِجَ مَمْلَكَةِ الْخارِطَة ... !
َوأَنَّهُمُ يولَدون كَمَا تولَدُ الناسُ في بَرْشَلونَة, لكِنَّهمْ يَعْبُدون إِلَهَ الطَّبيعَةِ في كُلِّ شَيْءٍ ... وَلا يَعْبُدونَ الذَّهَبْ ...
وَكولومبوسُ الْحُرُّ يَبْحَثُ عَنْ لُغَةٍ لَمْ
 يَجِدْها هُنا , وعَنْ ذَهَبٍ في جَماجِمِ أجْدادِنا الطَّيِّبينَ وكان لَهُ مَا يُرِيدُ مِنَ الْحَيِّ وَالمَيْتِ فيِنا .
إذاً لماذا يُواصلُ حَرْبَ الإبادَةِ مِنْ قَبْرِهِ , للنِّهايَة ؟
وَلَمْ يَبْقَ مِنَّا سِوى زِينَة للْخَرابِ , وَريشٍ خَفيفٍ على ثِيابِ الْبُحَيراتِ .
سَبْعونَ مِلْيونَ قَلْبٍ فَقَأْتَ ...سَيَكْفي وَيَكْفي , لِتَرجِعَ مِنْ مَوْتِنا مَلِكاً فَوْق عَرْشِ الْزمانِ الْجَديد ...أما أنَ أَنْ نَلْتَقِيَ , يا غَريبُ , غَريبَيْن في زَمَنٍ واحِدٍ ؟
 
وَفي بَلَدٍ واحِدٍ , مَثْلَما يَلُتَقي الْغُرَباءُ على هاوِية ؟
لَنا ما لَنا ... وَلَنا ما لَكُمْ مِنْ سَماء
لَكُمْ ما لَكُمْ ... وَلَكُمْ ما لَنا مِنْ هَواءٍ ومَاء..
لَنا ما لَنا مِنْ حَصىً ... وَلَكُمْ ما لَكُمْ مِنْ حَديد....
تَعالَ لِنَقْتَسِمَ الضَّوْءَ في قُوَّةِ الظِّلِّ , خُذْ ما تُريد وَ خُذْ ذَهَبَ الأَرْضِ والشَّمْس ,و اتْرُكْ لَنا أَرْضَ أَسْمائِنا وَعُدْ يا غَريبُ , إلَى الأَهْلِ ... وابْحَثْ عَنِ الْهِنْد /


( 3) ...
...أَسْماؤُنا شَجَرٌ مِنْ كَلامِ الإِلهِ, وَ طَيْرٌ تُحَلِّقُ أُعَلْى مِنْ الْبُنْدُقِيَّةِ.
لا تَقْطَعوا شَجَرَ الاسْم يا أَيُّها الْقادمون مْنَ الْبَحْرِ حَرْبَاً وَ لا تَنْفُثوا خَيْلَكُمْ لَهَباً في السُّهول لَكُمْ رَبُّكُمْ لَنَا رَبُّنا , وَلَكُمْ دينُكُمْ وَلَنَا دينُنا فلا تَدْفِنوا الله في كُتُبٍ وَعَدَتْكُمْ بأَرْضٍ على أَرْضنا كَما تدّعونَ , وَلا تَجْعَلوا رَبَّكُمْ حاجِبِاً في بلاطِ المَْلَكِ !
خُذوا وَرْدَ أَحْلاَمنا كَيْ تَرَوْا ما نَرى مِنْ فَرَحْ !
وَناموا على ظِلِّ صَفْصافِنا كَي تَطيروا يَماماً يَماماً ...
كَما طارَ أَسْلافُنا الطِّيبونَ وَعادوا سَلاماً
سَلاماً.
سَتَنْقُصُكُمْ , أَيُّها الْبِيضُ , ذِكْرِى الرَّحيل عَنِ الأَبْيَضِ الْمُتَوَسِّط , وَتَنْقُصُكُمْ عُزْلَةُ الأَبَدَيَّةِ في غابَةِ لا تُطِلُّ على الهاوِيَةْ
وَتَنْقُصُكُمْ صَخْرَةٌ لا تُطيعُ تَدَفُّقَ نَهْرِ الزَّمانِ السَّريع
سَتَنْقُصُكُمْ ساعَةٌ للتأَمُّلِ في أيِّ شَيْءٍ , لتُنْضِجَ فيكُمْ سَماءً ضَروريَّةً للتُّرابِ , سَتَنْقُصُكُمْ ساعَةٌ للِتَّرَدُّد ما بَيْنَ دَرْبٍ ودَرْبٍ , سَيَنْقُصُكُمْ يورربيدوسُ يَوْماً , وَأَشْعارُ كَنْعَانَ والبْابلييِّنَّ , تَنقُصُكُمْ...
أَغني سُلَيْمانَ عَنْ شولَميتَ , سَيَنْقُصُكُم سَوْسَنٌ لِلْحَنين ..


سَتَنْقُصُكُمْ أَيُّها البِّيِضُ ذكرى تُروِّضُ خَيْلَ الجْنُون وَقَلْبٌ يَحُكُّ الصُّخُورَ لتَصْقُلَهُ في نِداءِ الكَمَنْجاتِ ... , يَنقُصُكُمْ , و تَنْقُصُكُمْ حَيْرَةٌ لِلْمُسَدْسِ : إِنْ كانَ لا بُدَّ مِنْ قَتْلِنَا فَلاَ تَقْتُلوا الْكائِناتِ التَّي صادَقَتْنا,
وَ لا تَقْتُلوا أَمْسنَا ...
 سَتَنْقُصُكُمْ هُدْنَةٌ مَعَ أَشْباحنا في لَيالي الشِّتاءِ الْعقيمة وَشَمْسٌ أَقلُّ اشتعالاً , وَ بَدْرٌ أَقلُّ اكتِمالاً , لِتَبْدُوَ الْجَريَمة أَقلُّ احْتِفالاً على شاشَةِ السِّينما , فَخُذوا وَقْتَكُمْ ...

( 4)
... نَعْرِفُ ماذا يُخَبَّي هذا الْغُموضُ الْبَليغُ لنا .. سَماءٌ تَدَلَّتْ على ملْحنا تُسْلْمُ الرُّوحَ .
صَفْصافَةٌ تَسيرُ على قَدَمٍ الرِّيحِ , وَحْشٌ يُؤَسِّسُ مَملكةً في

 ثُقوبِ الْفَضاءِ الجَريحِ
... وَبَحْرٌ يُمَلِّحُ أَخْشابَ أَبْوابِنا , وَلَم تَكُنْ الأَرْضُ أَثْقَلَ قَبْلَ الخليقةِ , لكنْ شيئاً كهذا عَرَفْناهُ قَبْلَ الزَّمانِ ... سَتَروي الرِّياحُ لنا

 بِدَيَتَنا والنِّهايَةَ , لكٍِنَّنا نَنْزِفُ اليَوْمَ حاضِرَنا وَنَدْفِنُ أَيَّامَنا في رَمَادِ الأَساطيرِ , لَيْسَتْ أَثينا لنا

 وَنَعْرِفُ أَيَّامُكُمْ مِنَ دُخانِ الْمَكانِ , وَ لَيْسَتْ أَثينا لَكُمْ , وَنَعْرِفُ ما هَيَّأَ الْمَعدِنُ – السَّيِّدُ الْيَوْمَ مِنْ أَجْلِنا

 وَمِنْ أَجْلِ آلهَةً تُدَافعْ عَنْ المْلحِ في خُبْزِنا ...
-
مِن الصَّخَبِ الْمَعدِنّي ؟
" نُبَشركم بِالحضارةِ " ....
 أَنا سَيِّدُ الْوَقْتِ , جِئْتُ لِكَيْ أَرِثَ الأَرْضَ مِنْكُم .
فَمُرًُّوا أَمامي , لأُحْصِيكَّمْ جُثَّةً جُثَّةً فَوْقَ سَطْحِ الْبُحَيْرَة .

" أُُبَشِّرُكُم بِالحْضارَةِ " قالَ , لِتَحْيَا الأَناجيلُ , قالَ , فَمُرُّوا لِيَبْقى لِيَ الرَّبُّ
وَحْدي , فإِنَّ هُنوداًُ يَموتونَ خَيْر

لِسَيِّدِنا في العُلا مِنْ هُنود يَعيشونَ , وَالرَّبُّ أَبْيَض وَ أَبْيَضُ هذا النَّهارُ :
لَكُمْ عالمٌ وَلنا عالَمْ...

يَقول الغَريبُ كَلاماً غَريباً، وَيَحْفرُ في الأَرْضِ بِئْراً لِيَدْفنَ فيها السَّماءَ .
يَقول الغَريبُ كَلاماً غَريباً

وَيصْطادُ أَطُفالنا وَاْلفَراشَ بِماذا وَعَدْتَ حَديقَتَنا يا غَريب؟
بِوَرُدٍ مِن الزِّنْكِ أَجْمَلَ مِنْ وَرْدِنا؟
فَلْيكُنْ ما تَشاء وَلكِنْ أَتَعْلَمُ أَنَّ الْغَزَالةَ لا تَأْكُلُ الْعُشْبَ إِنْ مَسَّهُ دَمُنا؟

أَتَعْلَمُ أَنَّ الْجَواميسَ إِخْوتُنا والنَّباتاتِ إِخْوتُنا يا غَريب؟
فلا تَحْفِرِ الأَرْضَ أَكْثَرَ ! لا تَجْرَحِ السُّلَحْفاةَ التَّي

 تَنامُ على ظَهرِها الأَرْضُ ، جَدَّتُنا الأَرْضُ أَشجارنُا شَعْرُها وَزِينتُنا زَهْرُها. "
 هذِه الأَرْضُ لا مَوْتَ فيها " فلا

تُغَيِّرْ هَشاشَةَ تَكْوينِها ! لا تُكَسِّرْ مَرايا بَساتيِنها وَلا تُجْفِلِ الأَرْضَ , لا تُوجِعِ الأَرْضَ أَنْهارُنا خَصْرُها

 وَأَحْفادُها نَحْنُ, أَنتُمْ ونحن فلا تَقْتُلوها... سنَذَهبُ ، عمَّا قليلٍ، خُذُوا دَمَنا واتركُوها
كما هي ,
أَجملَ ما كَتَبَ الله فوقَ المياه ,
لَهُ...ولنا

َسَنْسمَعُ أَصْواتَ أَسلافِنا في الرِّياحِ ، ونُصْغي إِلى نَبْضِهِمْ في بَراعِم أَشجارِنا
هذه الأَرْضُ جَدَتَّنُا

مُقَدَّسةٌ كُلُّها، حَجَراً حَجَراً، هذه الأَرْضُ كُوخٌ لآلِهَةٍ سَكَنتْ مَعَنا , نَجْمةٌ نَجمةٌ وأَضاءَت لَنا

لَيالي الصَّلاةِ ... مَشَينا حُفَاةٌ لِنَلْمُسَ رُوحَ الْحَصى وَسِرْنا عُراةً لِتُلْبِسنَا الرُّوحُ، روحُ الهواءِ ، نِسَاء

يُعدْنَ إِلينا هِباتِ الطَّبيعة _ تاريخُنا كانَ تاريخَها.


كانَ لِلْوَقْتِ وَقْتٌ لِنولَدَ فيها وَنَرْجِعَ مِنْها إِلَيْها: نُعيدُ إِلى الأَرْضِ أَرَوْاحَها

رُوَيْداً رُوَيْداً وَنَحْفَظَ ذِكْرى أَحبِتَّنا في الْجِرار مَعَ الْمِلْح والزَّيْتِ ، كُلنَّا نُعَلِّقُ أَسْماؤهُمْ بُطُيورِ الجداوِل وتبكي عليكَم...غَدا ... !


( 5 )..
وَ نَحن نُوَدِّعُ نيرانَنا , لا نَرُدُّ التَّحِيُةَ ... لا تَكْتُبوا علينا وَصايا الإِلهِ الجديدِ , إِلهِ الحديدِ , ولا تطلُبوا مُعاهَدةً للسَّلامِ مِنَ الميِّتينَ , فلَم يَبْقَ منَهُمْ أَحَدْ
يُبَشَّرُكَمْ بالسَّلامِ مَعَ النَّفْسِ والآخرين , وكُلنَّا هُنا نُعمِّرُ أَكْثَرَ , لَوْلا بَنادِقُ إنجلترا والنَّبيذُ الفرنْسي والإنفلونزا , وكُنّا نَعيشُ كما يَنْبَغي أَنْ نَعيشَ بِرُفْقَة شَعْب الغَزال
وَنَحْفَظُ تاريخَنا الشَّفَهِيَّ , وَكُنَّا نُبَشِّرُكُمْ بالبَراءَةِ والأُقْحُوان ..
لكُمْ رَبُّكم ولنا ربَّنا , وَلَكُّم أَمْسُكُمْ ولنا أَمْسُنا , والزَّمان هُوَ النَّهرُ حينَ نُحدِّقُ في النَّهرِ يَغْرَوْرَقُ الْوَقْتُ فينا ...
أَلا تَحفظون قليلاً من الشِّعرِ كي تُوقِفوا الَمْذبَحةْ ؟
أَلَمْ تولَدوا من نِساءٍ ؟
أَلَمْ تَرْضَعوا مِثْلنَا حَليبَ الحنين إِلى أُمَّهاتٍ؟
أَلَم تَرْتَدوا مِثلَنا أَجْنِحَةْ
لِتَلْتَحِقوا بِالسُّنونو. وكُنَّا نُبَشِّرُكُمْ بالرّبيعِ, فلا تَشْهَروا الأَسْلِحَةْ ! 
وفي وُسْعِنا أَن نَتَبَادَلَ بَعْضَ الْهَدايا وبَعْضَ الغِناء ...
هُنا كانَ شَعْبي هنا ماتَ شَعْبي هنا شَجَرُ
الكستَناء



يُخبَُئ أَرْواحَ شَعْبي , سَيَرْجِعُ شَعْبي هَواءً وَضَوْءَاً وماء ,,,
خُذوا أََرْضَ أُمِّيَ بالسَّيفِ , لكنَّني لَنْ أُوَقِّعَ باسْمي مُعاهَدَةَ الصُّلْحِ بَيْنَ الْقَتيلِ وقاتلِهِ ِ, لَنْ أُوَقِّعَ باسْمي
على بَيْعِ شِبرٍ مِنَ الشَّوْكِ حَوْلَ حُقول الذُّرة وأَعْرِفُ أَنّي أُودِّعُ آخِرَ شَمْسٍ , وأَلْتَفُّ باسمي
وأَسْقُطُ في النَّهرِ أَعْرِفُ أَعودُ إِلى قَلْبِ أُمِّي لِتَدْخُلَ , يا سَيَّدَ البِيضِ , عَصْركَ ...
فَارْفَعْ عَلى جُثَّتي
تَماثيلَ حُرّيةٍ لا تَرُدُّ التَّحِيَّةَ , واحفرْ صَليبَ الْحديد على ظِلِّيَ الْحَجَرِيِّ ,
سَأَصْعَدُ عَمَّا قليلٍ أَعالي النَّشيد , نَشيد انْتحارِ الْجمَاعاتِ حِينَ تُشيَّعُ تاريخَها للْبَعيد , وَأُطلِقُ فيها عَصافيرَ أصواتِنا :
ههُنا انْتصَرَ الْغُرَباء على الْمِلحِ , وَاخْتَلَطَ الْبَحْرُ في الْغَيْمِ , وَانْتَصَرَ الْغُرَباء على قِشْرَةِ الْقَمحِ فينا , وَمَدُّوا الأَنابيبَ لِلْبَرقِ والْكَهْرَباء ..
 هُنا انْتَحَرَ الصَّقْرُ غَمَّا , هُنا انْتَصَرَ الْغُرَباء عَلَيْنا .
ولَم يَبْقَ شيءٌ لنا في الزَّمانِ الجديد
هُنا تَتَبَخِّرُ أَجْسادُنا , غَيْمةً غَيْمةً , في الفضاء . هُنا تَتَلأْلأُ أَرْواحُنا , نَجْمةً نَجْمةً , في فضاءِ النَّشيد ...

( 6 ) ..
سَيَمضي زَمانٌ طَويلٌ لِيُصْبحَ حاضِرُنا ماضياً مثُلَنا ..
سنَمْضي إِلى حَتْفِنا , أَوَّلاً , سنُدفعُ عن شَجَرٍ نَرْتَديه ...
وَعَنْ جَرَسِ اللَّيلِ , عَنْ قَمَر , فَوْقَ أَكْواخنا نَشتْهيه
وَعَنْ طَيْشِ غزلانِنا سَنُدافعُ , عن طِينِ فَخْارِنا سَنُدافِعُ

وَعَن ريشنا في جَناحِ الأَغاني الأَخيرةِ , عمَّا قَليل تُقِمونَ عَالَمَكُمْ فَوْقَ عَالَمِنا: مِنْ مَقابِرِنا تَفْتَحونَ الطَّريق

إِلى الْقَمَرِ الاصطناعيِّ , هذا زَمانُ الصِّناعاتِ هذا زَمانُ المَعادِنِ , مِنْ قِطْعَةِ الفَحْمِ تَبْزُغُ شَمْبانيا الأقْوِياءْ.....

هُنالِكَ مَوْتى وَمُسْتوطَناتٌ , وَمَوْتى وبولدوزراتٌ , وَمَوْتى وَمُسْتَشْفَياتٌ , وَمَوْتى وَشَاشاتُ رادار تَرْصُدُ مَوتى

يَموتون أَكْثَرَ مِنْ مَرَةٍ في الْحياة , وَ تَرْصُدُ مَوتى
يَعيشونَ بَعْدَ الْمَماتِ , وَمَوْتى يُرَبُّونَ وَحْشَ الْحضاراتِ مَوْتاً ,
وَمَوْتى يَموتونَ كَيْ يَحْمِلوا الأَرْضَ فَوْقَ الرُّفات ....

إلى أَيْنَ يَا سَيِّد البِيض , تأَخُذُ شَعْبي ,..
وَشَعْبَك؟
إلى أَيِّ هَاوِيَةٍ يَأَخُذُ الأَرضَ هذا الرَوبوتُ الْمُدجَّجُ بَالطَّائِرات

وَحَامِلَهِ الطَّائراتِ إلى أَيِّ هاويةٍ رَحْبَةَ تَصْعَدون ؟
لَكُم ما تَشاءونَ : رُوما الجديدةُ , إِسْبَارْطةُ التكنولوجيا
و ... أَيديولوجيا الجنون
ونَحنُ سَنَهْرُبُ مِنْ زَمَنِ لَمْ نُهَيِّئ لَهُ , بَعْدُ هاجِسنَا
سَنَمضي إلى وَطَنِ الطَّيْرِ سِرْباً من الْبْشَرِ السَّابقين نُطِلُّ على أَرضِنا مِنْ حَصى أَرضِنا , مِنْ ثُقوبِ الْغُيوم
نُطِلُّ على أَرضِنا مِنْ كَلامِ النُّجُومِ
 نُطِلُّ على أَرضِنا مِنْ هَواءِ الْبُحَيْراتِ , مِنْ زَغَبِ الذُّرَةِ الْهَشِّ , مِن زَهْرَةَ القَبْرِ , من وَرَقِ الحُورِ , من كُلَّ شيء يُحاصِرُكم , أَيُّها البِيضُ , مَوْتى يَموتونَ, مَوْتى يَعيشون , مَوْتى يَعودونَ , مَوْتى يَبوحونَ بالسِّرِ , فَلْتُمْهِلوا الأَرْضَ حتى تَقولَ الحَقيقَة , كُلَّ الحَقيقة ,
عَنكم
وعنَّا
وعنَّا
وعنكم !

 ( 7 ) ...
هُنالِك مَوتى ينَامونَ في غُرَفٍ سَوفَ تَبْنونَها ..
هُنالِك مَوتى يَزورونَ ماضيَهُمْ في المَكانِ الَّذي تَهْدمون
هُنالِك مَوتى يَمُرُّونَ فَوقَ الجسور الَّتي سَوف تَبْنونَها
هُنالِك مَوتى يُضيؤنَ لَيْلَ الفَراشاتِ , مَوْتى يَجيئونَ فَجْراً لكي يَشْرَبُوا شايَهُمْ مَعَكُم , هادئِين
كما تَرَكَتْهُمْ بَنادِقُكُمْ , فاتركوا يا ضُيوفَ المَكان
مَقاعدَ خالِيَةٍ لِلْمُضيفينَ .. كي يَقْرؤوا
عليكُمْ شُروطَ السَّلامِ مَعَ ... الْمَيِّتين !

 (من ديوان ... " أحد عشر كوكباً " 1992 )

 

مقاطع من أحمد الزعتر لمحمود درويش


 أحمد الزعتر 

  ( مقاطع )


ليدين من حَجَر وزعترْ

هذا النشيدُ .. لأحمد المنسيِّ بين فَراشتين

مَضَتِ الغيومُ وشَّردتني

ورمتْ معاطِفها الجبالُ وخبأتني



نازلاً من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل

البلاد وكانت السنةُ انفصال البحر عن مدن

الرماد , وكنتُ وحدي

ثم وحدي ..

آه يا وحدي ؟ وأحمدْ

كان اغترابَ البحر بين رصاصتين

مُخيّماً ينمو , ويُنجب زعتراً ومقاتلين

وساعداً يشدُّ في النسيان

ذاكرةُ تجيء من القطارات التي تمضي

وأرصفةً بلا مستقبلين وياسمين

كان اكتشافَ الذات في العرباتِ

أو في المشهد البحريِّ

في ليل الزنازين الشقيقةِ

في العلاقات السريعة

والسؤال عن الحقيقةْ

في كلِّ شيء كان أحمدُ يلتقي بنقيضهِ

عشرين عاماً كان يسألْ

عشرين عاماً كان يرحلْ

 عشرين عاماً لم تلده أمُّهُ إلاَ دقائقَ

 في إناء الموز

وانسَحَبَتْ

يريد هويةً فيصاب بالبركانِ ,

سافرت الغيومُ وشَّردتني

ورَمَتْ مَعاطفها الجبالُ وخَّبأتني

أنا أحمد العربيُّ – قالَ

أنا الرصاصُ البرتقالُ الذكرياتُ

وجدتُ نفسي قرب نفسي

فابتعدتُ عن الندى والمشهد البحريّ

تل الزعتر الخيمة

 وأنا البلاد وقد أتَتْ

وتقمَّصتني

وأنا الذهاب المستمر إلى لبلاد

وجدتُ نفسي ملء نفسي ...

( ...)

لم تأتِ أغنيتي لترسم أحمدَ الكحليَّ في الخندقْ

الذكريَاتُ وراء ظهري , وهو يوم الشمس والزنبق

يا أيها الولد الموزِّع بين نافذتين

لا تتبادلان رسائلي

قاومْ

إنَّ التشابه للرمال .. وأنتَ للأزرقْ

وأحمدُ يفرُكُ الساعاتِ في الخندقْ

لم تأتِ أُغنيتي لترسم أحمد المحروق بالأزرق

هو أحمد الكَوْنيُّ في هذا الصفيح الضيِّقِ

المتمزِّق الحالمْ

وهو الرصاص البرتقاليُّ .. البنفسَجَةُ

الرصاصيَّهْ

وهو اندلاعُ ظهيرة حاسمْ

في يوم حريَّهْ

( ... )

... سائراً بين التفاصيل اتكأتُ على مياهٍ

فانكسرتُ

أكلّما نَهَدَتْ سفرجلةٌ نسيتُ حدود قلبي

والتجأتُ إلى حصارٍ كي أحدِّد قامتي

يا أحمد العربيُّ ؟

لم يكذب عليَّ الحب . لكن كُّلّما جاء المساء

امتصَّني جَرَسٌ بعيدٌ

والتجأتُ إلى نزيفي كي أُحدِّد صورتي

يا أحمد العربيُّ

لم أغسل دمي من خبز أعدائي

ولكن كُلّما مرَّت خُطايَ على طريقٍ

فرَّت الطرقُ البعيدةُ والقريبةُ

كلّما آخيتُ عاصمةً رمَتني بالحقيبة

فالتجأتُ إلى رصيف الحلم والأشعار

كم أمشي إلى حُلُمي فتسبقني الخناجرُ

آه من حلمي ومن روما ..

وحيفا من هنا بدأتْ

وأحمدُ سُلَّمُ الكرملْ

وبسملة الندى والزعتر البلدي والمنزلْ

 ( ... )

كان المخيَّم جسمَ أحمدْ

كانت دمشقُ جفونَ أحمدْ

كان الحجاز ظلال أحمدْ

صار الحصارُ مُرورَ أحمدَ

    فوق أفئدة الملايين الأسيرهْ

صار الحصارُ هُجُومَ أحمدْ

والبحر طلقته الأخيرة !



يا خَصْرَ كلِّ الريح

يا أسبوع سُكَّرْ !

يا اسم العيون ويا رُخاميّ الصدى

يا أحمد المولود من حجر وزعترْ

ستقول : لا

ستقول : لا

جلدي عباءةُ كلِّ فلاح سيأتي من حقول التبغ

كي يلغي العواصمْ

وتقول : لا

جسدي بيان القادمين من الصناعات الخفيفةِ

والتردد .. والملاحمْ

نحو اقتحام المرحلةْ

وتقول :لا

ويدي تحياتُ الزهور وقنبلهْ

مرفوعة كالواجب اليومي ضدَّ المرحلهْ

وتقول : لا

يا أيها الجسد المُضرَّج بالسفوحِ

وبالشموس المقبلهْ

وتقول : لا

يا أيها الجسد الذي يتزوج الأمواج

فوق المقصلهْ

وتقول : لا

وتقول : لا

وتقول : لا

يا اسم الباحثين عن الندى وبساطة الأسماء

يا اسم البرتقالهْ

يا أحمد العاديّ !

كيف مَحَوْت هذا الفارقَ اللفظِّي بين الصخر    والتفَّاح .. بين البندقية والغزالهْ !

(...)

يا أحمدُ العربيُّ .. قاومْ

لا وقت للمنفى وأغنيتي ..

سنذهب في الحصار

حتى رصيف الخبز والأمواجِ

تلك مساحتي ومساحة الوطن – المُلازِمْ

موتٌ أمام الحُلْمِ

أو حلم يموتُ على الشعار

فالذهب عميقاً في دمي واذهب عميقا ًفي الطحين ..

لنُصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين

...ولَهُ انحناءاتُ الخريف

لَهُ وصايا البرتقال

لَهُ القصائد في النزيف

لَهُ تجاعيدُ الجبال

لَهُ الهتافُ

لَهُ الزفافُ

لَهُ المجَّلات المُلوَّنةُ

المراثي المطمئنةُ

ملصقات الحائط

العَلَمُ

التقدَّمُ

فرقةُ الإِنشاد

مرسوم الحداد

وكل شيء كل شيء كل شيء

حين يعلن وجهه للذاهبين إلى ملامح وجههِ

يا أحمدُ المجهولُ ..

كيف سَكَنْتَنا عشرين عاماً واختفيتَ

وظَلَّ وجهُكَ غامضاً مثل الظهيرة

يا أحمد السريّ مثل النار والغابات

أشهر ْوجهك الشعبي َّفينا

واقرأ وصيَّتكَ الأخيرة

يا أيها المتفرَّجون ! تناثروا في الصمت

وابتعدوا قليلاً عنه كي تجدوهُ فيكم

حنطةً ويدين عاريتين

وابتعدوا قليلاً عنه كي يتلو وصيَّتَهُ

على الموتى إذا ماتوا

وكي يرمي ملامحَهُ

على الأحياء إن عاشوا .. !



(من ديوان "أعراس" 1977)

لحن غجري من كلمات محمود درويش



لحن غجري

شارعٌ واضحٌ

وَبِنْتْ

خَرجتْ تُشعلُ القمرْ

وبلادٌ بعيدةٌ

وبلادٌ بلا أثرْ .

 

حُلمٌ مالحُ

وصوتْ

يحفر الخصر في الحجرْ

اذهبي يا حبيبتي

فوق رمشي .. أو الوَتَرْ

 

قَمَرٌ جارحٌ

وصمتْ

يكسرُ الريح والمطرْ

يجعل النهرَ إبرةٌ

في يدٍ تنسج الشَجَرْ

 

حائطٌ سابحٌ

وبيتْ

يختفي كُلَّما ظَهَرْ

رُبَّما يقتلوننا

أو ينامون في الممّر ...

 

زَمَنٌ فاضحٌ

وموتْ

يشتهينا إذا عَبَرْ

انتهى الآن كُلُّ شيء

واقتربنا من النَهَرْ

انتهت رحلةُ الغَجَرْ

وتعبنا من السَفَرْ

 

شارعٌ واضحٌ

وبنتْ

خرجت تَلصق الصُوَرْ

فوق جدران جُثَّتي ..

وخيامي بعيدة

وخيامٌ بلا أثَرْ ...

 

(من ديوان "حصار لمدائح البحر" 1984)

 

قصيدة الأرض ( مقطع ) لمحمود درويش

 قصيدة الأرض  
 
( مقطع )

مساءٌ صغيرٌ على قريةٍ مُهمَلهْ

وعينان نائمتانْ

أعود ثلاثين عاماً

وخمسَ حروب

وأشهد أن الزمانْ

يخبئ لي سنبلهْ



يغنّي المغنّي

عن النار والغرباء

وكان المساء مساء

وكان المغّني يُغَنّي



ويستجوبونه :

لماذا تغّني ؟

يردُّ عليهم :

لأنُي أُغنّي

وقد فتَّشوا صدرَهُ

فلم يجدوا غير قلبهْ

وقد فتشوا قلبَهُ

فلم يجدوا غير شعبهْ



وقد فتَّشوا صوتَهُ

فلم يجدوا غير حزنهْ

وقد فتَّشوا حزنَهُ

فلم يجدوا غير سجنهْ

وقد فتَّشوا سجنَهْ

فلم يجدوا غير أنفسهم في القيود



وراء التلال
ينام المغَّني وحيداً

وفي شهر آذار  ...

تصعد منه الظلال ,,, ,,, .



(من ديوان "أعراس" 1977) 

 

من روائع محمود درويش: ليل يفيض من الجسد

 ليلٌ يفيض من الجَسَد *

ياسَمينُ على لَيْلِ تَمَوزَ , أُغْنيَّةٌ

لغَريبَيْنِ يلتقيانِ على شارع

لا يؤدِّي إلى هَدَفٍ ..
مَنْ أَنا بعد عينين لُوزتَّينِ ؟

يقول الغريبْ

مَنْ أَنا بعد منفاكَ فيِّ ؟ تقَولُ الغريبْة

إذنْ , حسناً , فلنَكُنْ حَذِرَيْنِ لئلا

 نُحَرِّكَ مِلْحَ البحارِ القديمةِ في جَسَد يتذَكَّرُ ...

كانت تُعيدُ لها جَسَدَاً ساخناً ,

 ويُعيدُ لها جَسَداً ساخناً ,

هكذا يترُكُ العاشِقانِ الغريبانِ حُبَّهما فَوْضَوِيَّاً,

كما يتركان ثيابَهما الداخليَّة بين زُهور الملاءات ...

إن كُنْتَ حقاً حبيبي , فأَلِّفْ

نشيدَ أَناشيدَ لي , واحفُرِ اسمي

على جذْع رُمُانة في حدائِقِ بابلَ

إن كُنْتِ حقاً تُحِبِّينَني , فَضعي

حُلُمي في يديَّ . وقولي لَهُ , لابنِ مريمَ ,

كيف فَعَلْتَ بنا ما فعلتَ بنفسِكَ ,

يا سيِّدي ؟ هل لدينا من العَدْل ما سوف

يكفي ليجعلنا عادلين غداً ؟

كيف أٌُشفى من الياسَمين غداً ؟

كيف أٌُشفى من الياسَمين غداً ؟

يُعْتِمانِ معاً في ظلالِ تشعُّ على

سقف غُرْفَتِهِ : لا تكُنْ مُعِتْماً

بَعْدَ نهديَّ – قالت له ...

قال : نهداكِ ليلٌ يُضيءُ الضروريَّ

 نهداكِ ليلٌ يُقَبِّلُني , وامتلأنا أَنا

والمكانُ بليلٍ يَفيضُ من الكأسِ ...

تَضْحَكُ من وَصْفِهِ , ثم تضحك أَكثَرَ

حين تُخَبِّئُ مُنْحَدَرَ الليل في يدها ..
  يا حبيبي لو كان لي

أَنْ أَكونَ صَبيَّاً ... لكُنْتُكَ أَنتَ

  ولو كان لي أَنْ أَكونَ فتاةً

لكنتُك أَنتِ ! ..

وتبكي , كعادتها , عند عَوْدَتِها

من سماءِ نبيذيّةِ اللون : خُذْني

إلى بَلَد ليس لي طائرٌ أَزرقٌ

فوق صَفْصَافِةِ يا غريبُ

وتبكي , لتَقْطَعَ غاباتِها في الرحيلِ

الطويل إلى ذاتها : مَنْ أَنا ؟

مَنْ أَنا بعد مَنْفاك في جسدي ؟

آهِ منِّي , ومنكَ ومن بلدي

مَنْ أَنا بعد عينين لوزتَّين ؟

أَرِيني غَدي ! ..

هكذا يتركُ العاشقانِ وداعَهُما

فَوْضَوِيَّاً, كرائحةِ الياسمين على ليل تمُّوزَ.

في كُلِّ تمُّوزَ يَحْملُني الياسمينُ إلى

شارع , لا يؤدِّي إلى هَدَفٍ ,

بَيْدَ  أَني أُتابعُ أُغنيّتي ..



(من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" 1995 ) 

 

مطار اثينا من ديوان "ورد أقل" لمحمود درويش

 مطار أثينا

مَطَارُ أَثِينَا يُوزِّعُنَا للِمْطَارَات .
قَالَ المُقَاتِلُ : أَيْنَ أُقَاتِلُ ؟
صَاحَتْ بِهِ حَامِلٌ : أَيْنَ أُهْديِكَ طِفْلَكَ ؟
قَالَ المُوَظَّفُ : مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ ؟
أًجَبْنَا : مِنْ البَحْرِ .
قَالُوا : إِلَى أَيْنَ تَمْضُون ؟
قُلْنا : إلى البَحْرِ .
قَالُوا : و أَيْنَ عَنَاوِينُكُم ؟
قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ جَمَاعَتِنا : بُقْجَتي قَريَتي .
في مَطَارِ أَثِينَا انْتَظَرْنَا سنِيناً .
تَزَوَّجَ شَابٌّ فَتَاةً وَلَمْ يَجِدَا غُرْفَةً لِلزَّوَاجِ السَّريعِ
تَسَائَلَ : أَيْنَ أَفُضُّ بَكَارتَهَا ؟ فَضَحِكْنَا وَقُلْنَا لَهُ : يَا فَتى , لاَ مَكَانَ لِهَذَا السُّؤالِ .
وَقَالَ المُحلِّل فِيناَ : يَمُوتُونَ مِنْ أَجلْ أَلاَّ يَمُوتُوا سَهْواً .
وَقَالَ الأَديِبْ : مُخَيَّمُنَا سَاقِِطٌ لاَ محَالة .
مَاذَا يُرِيدُون مِنَّا ؟
وَكَانَ مَطَارُ أَثِينَا يُغَيِّرُ سُكَّانَهُ كُلَّ يَوْمٍ .
وَنَحْنُ بَقِينَا مَقَاعِد فَوْفَ المَقَاعِدِ نَنْتَظِرُ البَحْرَ , كَمْ سَنةً يَا مَطَارَ أَثِينَا ! ....


(من ديوان "ورد أقل" 1986) 

 

موسيقى عربية, ليتَ الفتى حَجَرٌ لمحمود درويش

 " ليتَ الفتى حَجَرٌ "


يا ليتني حَجَرُ ...

 أكُلَّما شَرَدَتْ عينانِ

  شرَّدنَي

   هذا السحابُ سحاباً

 كُلَّما خَمَشَتْ عصفورةٌ أُفقاً

فَتَّشْتُ عن وَثَنِ ؟

 أكُلَّما لَمَعَتْ جيتارَةٌ

خَضَعتْ

روحي لمصرعها في رَغْوَةِ السُّفُنِ

أكُلَّما وَجَدَتْ أُنثى أُنوثتها

أضاءني البرقُ من خصري

 وأحرقني !

أكُلَّما ذَبُلَتْ خُبّيزَةٌ

وبكى طيرٌ على فننِ

   أصابني مَرَضٌ

   أو صِحْتُ : يا وطني !

 أكُلَّما نَوَّرَ اللوزُ اشتعلتُ بِهِ

 وكلما احترقا

كنت الدخانَ ومنديلاً

تمزقني

ريحُ الشمال , ويمحو وجهيَ المَطَرُ ؟

ليت الفتى حَجَر

 يا ليتني حَجَرُ ...

(من ديوان "حصار لمدائح البحر" 1984) 




هدنة مع المغول أمام غابة السنديان لمحمود درويش

هدنة مع المغول أمام غابة السنديان ...

(1)
 
كائنات من السنْدِيان تُطيلُ الوقوفَ على التلّ .. قَدْ يصعَدُ العُشْبُ من خبزنا نحوها إِنْ تركنا المكانَ , وَقَدْ يهبط اللازوردُ السماويُّ منها إِلى الظلِّ فوق الحصونْ .
مَنْ سيملأ فُخُارنا بعدنا ؟
مَنْ يُغَيِّرُ أَعداءنا عندما يعرفونْ أَننا صاعدون إِلى التلِّ كي نمدَحَ الله .. في كائناتٍ من السنديانْ ؟
*
كلُّ شيء يدلُّ على عَبَث الريح لكننا لا نَهُبُّ هباءْ رُبَّما كان هذا النهارُ أَخَفَّ علينا من الأَمس , نجن الذينْ قد أَطالوا المكوثَ أَمام السماء , ولم يعبدوا غير ما فَقَدُوا من عبادتهمْ رُبَّما كانت الأَرضُ أَوسعَ من وَصفْها .
ربما كان هذا في الطريقُ دخولاً مع الريح .
في غابة السنديانْ .

*
الضحايا تَمُرُّ من الجانبينْ , تقول كلاماً أَخيراً وتسقط في عالَمٍ واحدٍ .
سوف ينتصرُ النسْرُ والسنديانُ عليها .


(2)
 
فلا بُدَّ مِنْ هُدْنَةٍ للشقائق في السهل كي تُخْفِيَ الميتين على الجانبين , وكيْ نَتَبَادَلَ بَعْض الشتائم قبل الوصول إِلى التلّ .
لا بُدَّ مِنْ تَعَبٍ آدمي يُحَوِّل تلك الخيولَ إِلى ..كائناتٍ من السنديانْ

*
الصدى واحدٌ في البراري : صدى ,والسماءُ على حجر غرْبَةٌ عَلَّقْتها الطيورُ على لا نهايات هذا الفضاء , وطارتْ... والصدى واحدٌ في الحروب الطويلة : أُمٌّ , أَبٌ , وَلَدٌ صَدَّقوا أَنَّ خلف البحيرات خيلاً تعود إِليهم مُطَهَّمةً بالرجاء الأَخيْر فأَعدُّوا لأحلامهم قهوةً تمنع النوَمَ ..
في شَبَح السنديانْ

*

كُلُّ حربٍ تُعَلِّمنا أَن نحبَّ الطبيعة أَكثرَ : بعد الحصارْ نَعْتَني بالزنابقِ أَكثرَ , نقطف قُطْنَ الحنان من اللَوْزِ في شهر آذارَ .
نزرع غاردينيا في الرخام , ونَسْقي نباتاتِ جيراننا عندما يذهبون إِلى صَيْد غزلاننا .


( 3 )
 
فمتى تَضَعُ الحربُ أَوزارها كي نفُكَّ خُصُورَ النساء على التلّ ..
من عُقدة الرَّمز في السنديانْ ؟

*
ليت أَعدائنا يقرءون رسائلنا مرتين , ثلاثاً .. ليعتذروا للفراشة عن لعبة النار ..
في غابة السنديانْ

*
كم أردنا السلامَ لسيدنا في الأعالي ..لسيدنا في الكُتُبْ ..
كم أَردنا السلام لغازلة الصوف .. للطفل قرب المغارةْ لِهُواة الحياة ..
لأولاد أعدائنا في مخابئهمْ.. للمَغُولْ عندما يذهبون إِلى ليل زوجاتهم , عندما يرحلونْ عن برِاعم أزهارنا الآن .. عَنَّا ,
وعن ورق السنديانْ

*
الحروب تُعَلِّمنا أَن نذوق الهواء وأَن نمدح الماء.
كَمْ ليلةً سوف نفرح بالحُمُّص الصلْب والكستنا في جيوب معاطفنا ؟
أَمْ سننسى مهارتنا في امتصاص الرذاذ ؟
ونسأَل : هَلْ كان في وُسْع مَنْ مات أَلاَّ يموت ليبدأ سيرتَهُ من هنا ؟


( 4 )

رُبَّما نستطيع مديح النبيذ ونرفعُ نخْباً لأَرملة السنديانْ

*
كُلُّ قَلْبٍ هنا لا يردُّ على الناي يسقط في شَرَك العنكبوت .
تمهَّلْ تمهَّلْ لتسمع رَجْعَ الصدى فوق خيل العَدُوّ , فإِنُ المغُول يُحبُّون خمرتنا ويريدون أَن يَرْتَدوا جلد زوجاتنا في الليالي , وأَن يأخذوا شعراء القبيلة أسرى ,
 وأَنْ يقطعُوا شَجَرَ السنديانْ

*
 المغُول يريدوننا أَن نكون كما يبتغون لنا أن نكونْ حفنةً من هبوب الغبار على الصين أَو فارسٍ , ويريدوننا أَن نُحبَّ أَغانِيَهُمْ كُلَّها كي يَحُلَّ السلامُ الذي يطلبونْ ...
سوف نحفظ أَمثالهم ... سوف نغفر أَفعالَهُم عندما يذهبونْ مَعَ هذا المساء إِلى ريح أجدادهمْ ...
خلفَ أُغنيةِ السنديانْ
*
لمْ يجيئوا لينتصروا , فالخرافةُ ليست خرافتَهُمْ .
إِنهم يهبطونْ من رحيل الخيولِ إِلى غرب آسيا المريضِ , ولا يعرفونْ ..ومعجزةَ السنديانْ

 (5)
 
* الصّدَى واحدٌ في الليالي .
على قمة الليل نُحْصي النجومَ على صدر سَيِّدنا, عُمْرَ أَولادنا – كبروا سَنَةً بعدنا – غَنَمَ الأَهل تحت الضباب , وأَعدادَ قتلى المغول, وأعدادَنا والصدى واحدٌ في الليالي : سنرجع يوماً , فلا بُدَّ من شاعرٍ فارسيٍّ
لهذا الحنين ..
إلى لُغَةِ السنديانْ
*
الحُروبُ تعلَّمنا أَن نحبَّ التفاصيل : شكْل مفاتيحِ أَبوابنا , أن نُمَشِّطَ حنطتنا بالرموش , ونمشي خِفَافاً على أرضنا , أَن نقدِّسَ ساعات قبل الغروب على شجَر الزَّنْزَلَخْت ...
والحروبُ تُعَلِّمُنا أَن نرى صورة الله في كل شيء , وأَنْ نَتَحَمَّل عبء الأساطير كي نُخْرِجَ الوحشَ ...
من قصَّة السنديانْ ..
*
كم سنضحك من سُوس خُبْز الحروب ومن دُود ماء الحروب , إِذا ما انتصرنا نُعَلِّقُ أَعلامنا السودَ فوق حبال الغَسيلْ ثم نَصْنَع منها جواربَ ...وأَما النشيدُ , فلا بُدَّ من رَفْعِهِ في جنازات أَبطالنا الخالدين ..وأََما السبايا , فلا بُدَّ من عَتْقهنَّ, ولا بُدَّ من مَطَرٍ
فَوق ذاكرة السنديانْ

( 6 )

خَلْفَ هذا المساء نرى ما تبقَّى من الليل , عما قليلْ يشرب القَمَرْ الحُرُّ شايَ المُحَارب تحت الشجَرْ قَمَرٌ واحدٌ للجميع على الخندقين لَهُمْ ولنا , هَلْ لَهُمْ خلف تلك الجبال بيوتٌ من الطين , شايٌ , ونايٌ , وهَلْ عندهُمْ حَبَقٌ مثلنا يُرجع الذاهبين من الموت ...
في غابة السنديانْ ؟

*
وأَخيراً , صعدْنا إِلى التَلِّ ها نحن نرتفع الآن فوق جذور الحكاية ..ينبت عُشْبٌ جديد على دمنا وعلى دمهِمْ .
سوف نحشو بنادقنا بالرياحين , سوف نُطَوِّق أَعناقَ ذاك الحمام بأَوسمة العائدين ...ولكننا لم نجد أَحداً يقبل السِّلْم .. لا نحن نحن ولا غيرنا غيرنا
البنَادِقُ مكسورة .. والحمامُ يطير بعيداً بعيداً ..لم نجد احداً ههنا
لم نجد أَحداً ...
لم نجد غابة السنديانْ ! 



قصيدة يحبونني ميتا لمحمود درويش

 يحبّونني ميتاً


يُحبُّونَني مَيِّتاً لِيَقُولُوا : لَقَدْ كَان مِنَّا , وَكَانَ لَنَا .

سَمِعْتُ الخُطَى ذَاتَهَا , مُنْذُ عِشرينَ عَاماً تدقُّ عَلَى حَائِطِ اللَّيْلِ .

تَأتِي وَلاَ تَفْتَحُ البَابَ .

لَكِنَّهَا تَدْخُلُ الآن .

يَخْرُجُ مِنْهَا الثَّلاَثَةُ : شَاعِرٌ , قَاتِلٌ , قَارئٌ .

أَلاَ تَشْرَبُونَ نَبِيذاً ؟ سَأَلْتُ , سَنَشْرَبُ .

قَاُلوا . مَتَى تُطْلِقُونَ الرَّصاصَ عَلَيَّ ؟ سَأَلْتُ .

أجابوا : تَمَهَّلْ ! وَصفُّوا الكُؤُوسَ وَرَاحُوا يُغَنُّونَ لِلشَّعْبِ , قُلْتُ : مَتَى تَبْدَءونَ اغْتِيَالي ؟

فَقَالُوا : ابْتَدَأنَا ... لمَاذَا بَعَثْتَ إلَى الرُّوحِ أَحْذِيَةً !   كَيْ تَسيِرَ عَلَى الأَرْضِ , قُلْتُ .

فَقَالُوا : لِمَاذَا كَتَبْتَ القَصيِدَةَ بَيْضَاءَ والأَرْضُ سَوْدَاءُ جِدَّاً .

أَجَبْتُ : لأَنَّ ثَلاَثِينَ بَحْراًُ تَصُبُّ بِقَلْبِي .

فَقَالوا : لِمَاذا تُحُبُّ النَّبِيذَ الفَرَنْسِيّ ؟

قُلْتُ : لأَنِّي جَدِيرٌ بأَجْمَل امْرأَةٍ .

كَيْفَ تَطْلُبُ مَوْتَكَ ؟

أَزْرَق مِثْل نُجُومٍ تَسِيلُ مِنَ السَّقْف – هَلْ تَطْلُبُونَ المَزِيدَ مِنَ الخَمْر ؟

قَالوا : سَنَشْرَبُ .

قُلْتُ : سَأَسْأَلُكُمْ أَنْ تَكُونُوا بَطِئِين , أَنْ تَقْتُلُوني رُوَيْداً رُوَيْداً لأَكْتُبَ شعْراً ... 


من قصيدة انا يوسف يا ابي لمحمود درويش


 أنا يوسف يا أبي


أَنا يُوسفٌ يَا أَبِي .

 يَا أَبِي إِخْوَتِي لاَ يُحِبُّونَني , لاَ يُرِدُونَني بَيْنَهُم يَا أَبِي .

يَعْتَدُونَ عَلَيَّ وَيَرْمُونَني بِل حَصَى وَالكَلاَمِ .

 يُرِدُونَني أَنْ أَمُوت لِكَيْ يمْدَحُونِي .



وَهُمْ أَوْصَدُوا بَاب َبَيْتِكَ دُونِي .

وَهُمْ طَرَدُونِي مِنَ الَحَقْلِ.

هُمْ سَمَّمُوا عِنَبِي يَا أَبِي .

وَهُمْ حَطَّمُوا لُعَبِي يَا أَبِي .



حَينَ مَرَّ النَّسيِمُ وَلاَعَبَ شَعْرِيَ غَارُوا وَثَارُوا عَلَيَّ وَثَارُوا عَلَيْكَ .

 فَمَاذَا صَنَعْتُ لَهُمْ يَا أَبِي .

الفَرَاشَاتُ حَطَّتْ عَلَى كَتْفَيَّ , وَمَالَتْ عَلَيَّ السَّنَابِلُ , وَ الطَّيْرُ حَطَّتْ على راحتيَّ .

فَمَاذَا فَعَلْتُ أَنَا يَا أَبِي .

 وَلِمَاذَا أَنَا ؟

أَنْتْ سَمَّيْتَِني يُوسُفاً , وَهُوُ أَوْقَعُونِيَ فِي الجُبِّ , وَاتَّهَمُوا الذِّئْبَ ؛ وَ الذِّئْبُ أَرْحَمُ مِنْ إِخْوَتِي ...

أَبَتِ !

 هَلْ جَنَيْتُ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَمَا قُلْتُ إِنِّي :

رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً , والشَّمْس والقَمَرَ ,

رَأّيْتُهُم لِي سَاجِدِينْ ؟؟
 
 

قصيدة لاعب النرد لمحمود درويش

لاعب النرد

مَنْ أَنا لأقول لكمْ
ما أَقول لكمْ ؟
وأَنا لم أكُنْ حجراً صَقَلَتْهُ المياهُ
فأصبح وجهاً
ولا قَصَباً ثقَبتْهُ الرياحُ
فأصبح ناياً ...

أَنا لاعب النَرْدِ ،
أَربح حيناً وأَخسر حيناً
أَنا مثلكمْ
أَو أَقلُّ قليلاً ...
وُلدتُ إلى جانب البئرِ
والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ
وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ
وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً
وانتميتُ إلى عائلةْ
مصادفَةً ،
ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ
وأَمراضها :

أَولاً - خَلَلاً في شرايينها
وضغطَ دمٍ مرتفعْ
ثانياً - خجلاً في مخاطبة الأمِّ والأَبِ
والجدَّة - الشجرةْ
ثالثاً - أَملاً في الشفاء من الانفلونزا
بفنجان بابونج ٍ ساخن ٍ
رابعاً - كسلاً في الحديث عن الظبي والقُبَّرة
خامساً - مللاً في ليالي الشتاءْ
سادساً - فشلاً فادحاً في الغناءْ ...

ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً ...
ومصادفةً أَن أَرى قمراً
شاحباً مثل ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات
ولم أَجتهد
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً !

كان يمكن أن لا أكونْ
كان يمكن أن لا يكون أَبي
قد تزوَّج أُمي مصادفةً
أَو أكونْ
مثل أُختي التي صرخت ثم ماتت
ولم تنتبه
إلى أَنها وُلدت ساعةً واحدةْ
ولم تعرف الوالدة ْ ...
أَو : كَبَيْض حَمَامٍ تكسَّرَ
قبل انبلاج فِراخ الحمام من الكِلْسِ /

كانت مصادفة أَن أكون
أنا الحيّ في حادث الباصِ
حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّة ْ
لأني نسيتُ الوجود وأَحواله
عندما كنت أَقرأ في الليل قصَّةَ حُبٍّ
تَقمَّصْتُ دور المؤلف فيها
ودورَ الحبيب - الضحيَّة ْ
فكنتُ شهيد الهوى في الروايةِ
والحيَّ في حادث السيرِ /

لا دور لي في المزاح مع البحرِ
لكنني وَلَدٌ طائشٌ
من هُواة التسكّع في جاذبيّة ماءٍ
ينادي : تعال إليّْ !
ولا دور لي في النجاة من البحرِ
أَنْقَذَني نورسٌ آدميٌّ
رأى الموج يصطادني ويشلُّ يديّْ

كان يمكن أَلاَّ أكون مُصاباً
بجنِّ المُعَلَّقة الجاهليّةِ
لو أَن بوَّابة الدار كانت شماليّةً
لا تطلُّ على البحرِ
لو أَن دوريّةَ الجيش لم تر نار القرى
تخبز الليلَ
لو أَن خمسة عشر شهيداً
أَعادوا بناء المتاريسِ
لو أَن ذاك المكان الزراعيَّ لم ينكسرْ
رُبَّما صرتُ زيتونةً
أو مُعَلِّم جغرافيا
أو خبيراً بمملكة النمل
أو حارساً للصدى !

مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم
عند باب الكنيسةْ
ولستُ سوى رمية النرد
ما بين مُفْتَرِس ٍ وفريسةْ
ربحت مزيداً من الصحو
لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ
بل لكي أَشهد المجزرةْ

نجوتُ مصادفةً : كُنْتُ أَصغرَ من هَدَف عسكريّ
وأكبرَ من نحلة تتنقل بين زهور السياجْ
وخفتُ كثيراً على إخوتي وأَبي
وخفتُ على زَمَن ٍ من زجاجْ
وخفتُ على قطتي وعلى أَرنبي
وعلى قمر ساحر فوق مئذنة المسجد العاليةْ
وخفت على عِنَبِ الداليةْ
يتدلّى كأثداء كلبتنا ...
ومشى الخوفُ بي ومشيت بهِ
حافياً ، ناسياً ذكرياتي الصغيرة عما أُريدُ
من الغد - لا وقت للغد -

أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى / أرى / لا أرى / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَى / ويغمى عليّ /

ومن حسن حظّيَ أن الذئاب اختفت من هناك
مُصَادفةً ، أو هروباً من الجيش ِ /

لا دور لي في حياتي
سوى أَنني ،
عندما عَـلَّمتني تراتيلها ،
قلتُ : هل من مزيد ؟
وأَوقدتُ قنديلها
ثم حاولتُ تعديلها ...

كان يمكن أن لا أكون سُنُونُوَّةً
لو أرادت لِيَ الريحُ ذلك ،
والريح حظُّ المسافرِ ...
شمألتُ ، شرَّقتُ ، غَرَّبتُ
أما الجنوب فكان قصياً عصيّاً عليَّ
لأن الجنوب بلادي
فصرتُ مجاز سُنُونُوَّةٍ لأحلِّق فوق حطامي
ربيعاً خريفاً ..
أُعمِّدُ ريشي بغيم البحيرةِ
ثم أُطيل سلامي
على الناصريِّ الذي لا يموتُ
لأن به نَفَسَ الله
والله حظُّ النبيّ ...

ومن حسن حظّيَ أَنيَ جارُ الأُلوهةِ ...
من سوء حظّيَ أَن الصليب
هو السُلَّمُ الأزليُّ إلى غدنا !

مَنْ أَنا لأقول لكم
ما أقولُ لكم ،
مَنْ أنا ؟

كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ
والوحي حظُّ الوحيدين
"إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ"
على رُقْعَةٍ من ظلامْ
تشعُّ ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلامْ
كريش على الرملِ /

لا دَوْرَ لي في القصيدة
غيرُ امتثالي لإيقاعها :
حركاتِ الأحاسيس حسّاً يعدِّل حساً
وحَدْساً يُنَزِّلُ معنى
وغيبوبة في صدى الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت
من "أَنايَ" إلى غيرها
واعتمادي على نَفَسِي
وحنيني إلى النبعِ /

لا دور لي في القصيدة إلاَّ
إذا انقطع الوحيُ
والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ

كان يمكن ألاَّ أُحبّ الفتاة التي
سألتني : كمِ الساعةُ الآنَ ؟
لو لم أَكن في طريقي إلى السينما ...
كان يمكن ألاَّ تكون خلاسيّةً مثلما
هي ، أو خاطراً غامقاً مبهما ...

هكذا تولد الكلماتُ . أُدرِّبُ قلبي
على الحب كي يَسَعَ الورد والشوكَ ...
صوفيَّةٌ مفرداتي . وحسِّيَّةٌ رغباتي
ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ
إذا التقتِ الاثنتان ِ :
أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ
يا حُبّ ! ما أَنت ؟ كم أنتَ أنتَ
ولا أنتَ . يا حبّ ! هُبَّ علينا
عواصفَ رعديّةً كي نصير إلى ما تحبّ
لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ .
وذُبْ في مصبّ يفيض من الجانبين .
فأنت - وإن كنت تظهر أَو تَتَبطَّنُ -
لا شكل لك
ونحن نحبك حين نحبُّ مصادفةً
أَنت حظّ المساكين /

من سوء حظّيَ أَني نجوت مراراً
من الموت حبّاً
ومن حُسْن حظّي أنيَ ما زلت هشاً
لأدخل في التجربةْ !

يقول المحبُّ المجرِّبُ في سرِّه :
هو الحبُّ كذبتنا الصادقةْ
فتسمعه العاشقةْ
وتقول : هو الحبّ ، يأتي ويذهبُ
كالبرق والصاعقة

للحياة أقول : على مهلك ، انتظريني
إلى أن تجفُّ الثُمَالَةُ في قَدَحي ...
في الحديقة وردٌ مشاع ، ولا يستطيع الهواءُ
الفكاكَ من الوردةِ /
انتظريني لئلاَّ تفرَّ العنادلُ مِنِّي
فاُخطئ في اللحنِ /
في الساحة المنشدون يَشُدُّون أوتار آلاتهمْ
لنشيد الوداع . على مَهْلِكِ اختصريني
لئلاَّ يطول النشيد ، فينقطع النبرُ بين المطالع ،
وَهْيَ ثنائيَّةٌ والختامِ الأُحاديّ :
تحيا الحياة !
على رسلك احتضنيني لئلاَّ تبعثرني الريحُ /

حتى على الريح ، لا أستطيع الفكاك
من الأبجدية /

لولا وقوفي على جَبَل ٍ
لفرحتُ بصومعة النسر : لا ضوء أَعلى !
ولكنَّ مجداً كهذا المُتوَّجِ بالذهب الأزرق اللانهائيِّ
صعبُ الزيارة : يبقى الوحيدُ هناك وحيداً
ولا يستطيع النزول على قدميه
فلا النسر يمشي
ولا البشريُّ يطير
فيا لك من قمَّة تشبه الهاوية
أنت يا عزلة الجبل العالية !

ليس لي أيُّ دور بما كُنْتُ
أو سأكونْ ...
هو الحظُّ . والحظ لا اسم لَهُ
قد نُسَمِّيه حدَّادَ أَقدارنا
أو نُسَمِّيه ساعي بريد السماء
نُسَمِّيه نجَّارَ تَخْتِ الوليد ونعشِ الفقيد
نسمّيه خادم آلهة في أساطيرَ
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأولمب ...
فصدَّقهم باعةُ الخزف الجائعون
وكَذَّبَنا سادةُ الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال
هو الواقعيُّ على خشبات المسارح ِ /

خلف الكواليس يختلف الأَمرُ
ليس السؤال : متى ؟
بل : لماذا ؟ وكيف ؟ وَمَنْ

مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم ؟

كان يمكن أن لا أكون
وأن تقع القافلةْ
في كمين ، وأن تنقص العائلةْ
ولداً ،
هو هذا الذي يكتب الآن هذي القصيدةَ
حرفاً فحرفاً ، ونزفاً ونزفاً
على هذه الكنبةْ
بدمٍ أسود اللون ، لا هو حبر الغراب
ولا صوتُهُ ،
بل هو الليل مُعْتَصراً كُلّه
قطرةً قطرةً ، بيد الحظِّ والموهبةْ

كان يمكن أن يربح الشعرُ أكثرَ لو
لم يكن هو ، لا غيره ، هُدْهُداً
فوق فُوَهَّة الهاويةْ
ربما قال : لو كنتُ غيري
لصرتُ أنا، مرَّةً ثانيةْ

هكذا أَتحايل : نرسيس ليس جميلاً
كما ظنّ . لكن صُنَّاعَهُ
ورَّطوهُ بمرآته . فأطال تأمُّلَهُ
في الهواء المقَطَّر بالماء ...
لو كان في وسعه أن يرى غيره
لأحبَّ فتاةً تحملق فيه ،
وتنسى الأيائل تركض بين الزنابق والأقحوان ...
ولو كان أَذكى قليلاً
لحطَّم مرآتَهُ
ورأى كم هو الآخرون ...
ولو كان حُرّاً لما صار أُسطورةً ...

والسرابُ كتابُ المسافر في البيد ...
لولاه ، لولا السراب ، لما واصل السيرَ
بحثاً عن الماء . هذا سحاب - يقول
ويحمل إبريق آماله بِيَدٍ وبأخرى
يشدُّ على خصره . ويدقُّ خطاه على الرمل ِ
كي يجمع الغيم في حُفْرةٍ . والسراب يناديه
يُغْويه ، يخدعه ، ثم يرفعه فوق : إقرأ
إذا ما استطعتَ القراءةَ . واكتبْ إذا
ما استطعت الكتابة . يقرأ : ماء ، وماء ، وماء .
ويكتب سطراً على الرمل : لولا السراب
لما كنت حيّاً إلى الآن /

من حسن حظِّ المسافر أن الأملْ
توأمُ اليأس ، أو شعرُهُ المرتجل

حين تبدو السماءُ رماديّةً
وأَرى وردة نَتَأَتْ فجأةً
من شقوق جدارْ
لا أقول : السماء رماديّةٌ
بل أطيل التفرُّس في وردةٍ
وأَقول لها : يا له من نهارْ !

ولاثنين من أصدقائي أقول على مدخل الليل :
إن كان لا بُدَّ من حُلُم ، فليكُنْ
مثلنا ... وبسيطاً
كأنْ : نَتَعَشَّى معاً بعد يَوْمَيْنِ
نحن الثلاثة ،
مُحْتَفلين بصدق النبوءة في حُلْمنا
وبأنَّ الثلاثة لم ينقصوا واحداً
منذ يومين ،
فلنحتفل بسوناتا القمرْ
وتسامُحِ موت رآنا معاً سعداء
فغضَّ النظرْ !

لا أَقول : الحياة بعيداً هناك حقيقيَّةٌ
وخياليَّةُ الأمكنةْ
بل أقول : الحياة ، هنا ، ممكنةْ

ومصادفةً ، صارت الأرض أرضاً مُقَدَّسَةً
لا لأنَّ بحيراتها ورباها وأشجارها
نسخةٌ عن فراديس علويَّةٍ
بل لأن نبيّاً تمشَّى هناك
وصلَّى على صخرة فبكتْ
وهوى التلُّ من خشية الله
مُغْمىً عليه

ومصادفةً ، صار منحدر الحقل في بَلَدٍ
متحفاً للهباء ...
لأن ألوفاً من الجند ماتت هناك
من الجانبين ، دفاعاً عن القائِدَيْنِ اللذين
يقولان : هيّا . وينتظران الغنائمَ في
خيمتين حريرَتَين من الجهتين ...
يموت الجنود مراراً ولا يعلمون
إلى الآن مَنْ كان منتصراً !

ومصادفةً ، عاش بعض الرواة وقالوا :
لو انتصر الآخرون على الآخرين
لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ أُخرى

"أُحبك خضراءَ" . يا أرضُ خضراءَ . تُفَّاحَةً
تتموَّج في الضوء والماء . خضراء . ليلُكِ
أَخضر . فجرك أَخضر . فلتزرعيني برفق...
برفق ِ يَدِ الأم ، في حفنة من هواء .
أَنا بذرة من بذورك خضراء ... /

تلك القصيدة ليس لها شاعر واحدٌ
كان يمكن ألا تكون غنائيَّةَ ...

من أنا لأقول لكم
ما أَقول لكم ؟
كان يمكن أَلاَّ أكون أَنا مَنْ أَنا
كان يمكن أَلاَّ أكون هنا ...

كان يمكن أَن تسقط الطائرةْ
بي صباحاً ،
ومن حسن حظّيَ أَني نَؤُوم الضحى
فتأخَّرْتُ عن موعد الطائرةْ
كان يمكن أَلاَّ أرى الشام والقاهرةْ
ولا متحف اللوفر ، والمدن الساحرةْ

كان يمكن ، لو كنت أَبطأَ في المشي ،
أَن تقطع البندقيّةُ ظلِّي
عن الأرزة الساهرةْ

كان يمكن ، لو كنتُ أَسرع في المشي ،
أَن أَتشظّى
وأصبَح خاطرةً عابرةْ

كان يمكن ، لو كُنْتُ أَسرف في الحلم ،
أَن أَفقد الذاكرة .

ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً
فأصغي إلى جسدي
وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ
فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً
وأُخيِّب ظنّ العدم

مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم ؟