من ديوان '' أثر الفراشة '': لم أحلم

لم أحلم
 
متنبّهاً الى ما يتساقط من أَحلامي، أَمنع
عطشي من الإسراف في طلب الماء من
السراب. أَعترفُ بأني تعبت من طول
الحلم الذي يعيدني إلى أوَّله وإلى آخري،
دون أن نلتقي في أيِّ صباح. «سأصنع
أحلامي من كفاف يومي لأتجنَّب الخيبة».
فليس الحلم أن ترى ما لا يُرى، على
وتيرة المُشتَهى، بل هو أن لا تعلم أنك
تحلم. لكن، عليك أن تعرف كيف تصحو.
فاليقظة هي نهوض الواقعي من الخياليّ مُنَقَّحاً،
وعودةُ الشِعر سالماً من سماءِ لُغةٍ متعالية
الى أرض لا تشبه صورتها. هل في
وسعي أن أختار أحلامي، لئلا أحلم
بما لا يتحقّق، كأن أكون شخصاً آخر...
يحلم بأنه يرى الفرق بين حيّ يرى
نفسه ميتاً، وبين ميت يرى نفسه حيّاً؟
ها أَنذا حيّ، وحين لا أحلم أَقول:
«لم أحلم، فلم أَخسر شيئاً؟!


من ديوان " اثر الفراشة": قال: أَنا خائف


قال: أَنا خائف

خافَ. وقال بصوت عالٍ: أنا خائف.
كانت النوافذ مُحْكَمَةَ الإغلاق، فارتفع
الصدى واتّسع: أنا خائف. صمتَ،
لكن الجدران ردَّدت: أنا خائف.
الباب والمقاعد والمناضد والستائر
والبُسُط والكتب والشموع والأقلام واللوحات
قالت كُلُّها: أنا خائف. خاف صوت
الخوف فصرخ: كفى! لكن الصدى لم
يردِّد: كفى! خاف المكوث في البيت
فخرج الى الشارع. رأى شجرة حَوْرٍ،
مكسورة فخاف النظر اليها لسبب لا
يعرفه. مرت سيارة عسكرية مسرعة،
فخاف المشي على الشارع. وخاف
العودة الى البيت لكنه عاد مضطراً.
خاف أن يكون قد نسي المفتاح في
الداخل، وحين وجده في جيبه اطمأنّ.
خاف أن يكون تيار الكهرباء قد انقطع.
ضغط على زر الكهرباء في ممر الدرج،
فأضاء، فاطمأنّ. خاف أن يتزحلق على
الدرج فينكسر حوضه، ولم يحدث ذلك
فاطمأنّ. وضع المفتاح في قفل
الباب وخاف ألا ينفتح، لكنه انفتح
فاطمأن. دخل الى البيت، وخاف أن
يكون قد نسي نفسه على المقعد خائفاً.
وحين تأكد أنه هو من دخل لا سواه،
وقف أمام المرآة، وحين تعرَّف الى
وجهه في المرآة اطمأنّ. أِصغى الى
الصمت، فلم يسمع شيئاً يقول: أنا
خائف، فاطمأنّ. ولسببٍ ما غامض...
لم يعد خائفاً!

من ديوان " اثر الفراشة": يرى نفسه غائباً

يرى نفسه غائباً

أنا هنا منذ عشر سنوات. وفي هذا المساء،
أجلس في الحديقة الصغيرة على كرسيّ من
البلاستيك، وأنظر الى المكان منتشياً بالحجر
الأحمر. أَعُدُّ الدرجات المؤدية الى غرفتي
على الطابق الثاني. إحدى عشرة درجة. الى
اليمين شجرةُ تين كبيرة تُظَلِّل شجيرات خوخ.
والى اليسار كنيسةٌ لوثريَّة. وعلى جانب
الدرج الحجري بئر مهجورة ودلو صدئ وأزهار
غير مرويَّة تمتصّ حبيبات من حليب أوَّل الليل.
أنا هنا، مع أربعين شخصاً، لمشاهدة مسرحية قليلة
الكلام عن منع التجوُّل، ينتشر أبطالها
المنسيّون في الحديقة وعلى الدرج والشرفة
الواسعة. مسرحية مرتجلة، أو قيد التأليف،
كحياتنا. أسترق النظر الى نافذة غرفتي
المفتوحة وأتساءل: هل أنا هناك؟
ويعجبني أن أدحرج السؤال على الدرج،
وأدرجه في سليقة المسرحية: في الفصل
الأخير، سيبقى كل شيء على حاله...
شجرةُ التين في الحديقة. الكنيسةُ اللوثرية
في الجهة المقابلة. يوم الأحد في مكانه
من الرُزنامة. والبئر المهجورة والدلو الصدئ.
أما أنا، فلن أكون في غرفتي ولا في
الحديقة. هكذا يقتضي النص: لا بد من
غائب للتخفيف من حمولة المكان!


من ديوان " اثر الفراشة": ما أنا إلاّ هو

ما أنا إلاّ هو
 
بعيداً، وراء خطاه
ذئابٌ تعضُّ شعاع القمرْ
بعيداً، أمام خطاه
نجوم تضيء أَعالي الشجرْ
وفي القرب منه
دمٌ نازفٌ من عروق الحجرْ
لذلك، يمشي ويمشي ويمشي
الى أن يذوب تماماً
ويشربه الظلّ عند نهاية هذا السفرْ
وما أنا إلاّ هُوَ
وما هو إلاّ أنا
في اختلاف الصّوَرْ!


من ديوان " اثر الفراشة": ماذا... لماذا كلُّ هذا؟

ماذا... لماذا كلُّ هذا؟


يُسَلِّي نفسه، وهو يمشي وحيداً، بحديث
قصير مع نفسه. كلمات لا تعني شيئاً،
ولا تريد أن تعني شيئاً: «ماذا؟ لماذا
كل هذا؟» لم يقصد أن يتذمر أو
يسأل، أو يحكَّ اللفظة باللفظة لتقدح
إيقاعاً يساعده على المشي بخفَّةِ شاب.
لكن ذلك ما حدث. كلما كرَّر: ماذا...
لماذا كل هذا؟ أحسَّ بأنه في صحبة
صديق يعاونه على حمل الطريق. نظر
إليه المارة بلا مبالاة. لم يظن أحد أنه
مجنون. ظنّوه شاعراً حالماً هائماً يتلقّى
وحياً مفاجئاً من شيطان. أما هو، فلم
يَتَّهم نفسه بما يسيء اليها. ولا يدري
لماذا فكَّر بجنكيزخان. ربما لأنه رأى
حصاناً بلا سرج يسبح في الهواء، فوق
بناية مُهَدَّمة في بطن الوادي. واصل
المشي على إيقاع واحد: «ماذا... لماذا
كل هذا؟» وقبل أن يصل الى نهاية
الطريق الذي يسير عليه كل مساء، رأى
عجوزاً ينتحي شجرة أكاليبتوس، يسند
على جذعها عصاه، يفك أزرار سرواله
بيد مرتجفة، ويبوّل وهو يقول: ماذا...
لماذا كل هذا؟. لم تكتف الفتيات
الطالعات من الوادي بالضحك على العجوز،
بل رمينه بحبَّات فستق أخضر!


من ديوان " اثر الفراشة": غريبان

غريبان
 
يرنو الى أَعلى
فيبصر نجمةً
ترنو إليهْ!
يرنو الى الوادي
فيبصر قبرَهُ
يرنو إليهْ
يرنو الى امرأةٍ،
تعذِّبُهُ وتعجبُهُ
ولا ترنو اليه
يرنو الى مرآتِهِ
فيرى غريباً مثله
يرنو إليهْ!


من ديوان " اثر الفراشة": ليت الفتى شجرة

ليت الفتى شجرة
 
ألشجرة أخت الشجرة، أو جارتها الطيّبة.
الكبيرة تحنو على الصغيرة، وتُمدُّها بما ينقصها
من ظلّ. والطويلة تحنو على القصيرة،
وترسل اليها طائراً يؤنسها في الليل. لا
شجرة تسطو على ثمرة شجرة أخرى، وإن
كانت عاقراً لا تسخر منها. ولم تقتل
شجرةٌ شجرةً ولم تقلِّد حَطّاباً. حين صارت
زورقاً تعلَّمت السباحة. وحين صارت
باباً واصلت المحافظة على الأسرار. وحين صارت
مقعداً لم تنسَ سماءها السابقة.
وحين صارت طاولة عَلَّمت الشاعر أن لا
يكون حطاباً. الشجرة مَغْفَرةٌ وسهَرٌ.
لا تنام ولا تحلم. لكنها تُؤتمنُ على أسرار
الحالمين، تقف على ساقها في الليل والنهار.
تقف احتراماً للعابرين وللسماء. الشجرة
صلاة واقفة. تبتهل الى فوق. وحين
تنحني قليلاً للعاصفة، تنحني بجلال راهبة
وتتطلع الى فوق... الى فوق. وقديماً قال
الشاعر: «ليت الفتى حجر». وليته قال:
ليت الفتى شجرة!



من ديوان " اثر الفراشة": مَكرُ المجاز


مَكرُ المجاز

مجازاً أقول: انتصرتُ
مجازاً أقول: خسرتُ...
ويمتدُّ وادٍ سحيقٌ أمامي
وأَمتدُّ في ما تبقى من السنديانْ...
وثمَّة زيتونتان
تَلُمّانني من جهاتٍ ثلاثٍ
ويحملني طائرانْ
الى الجهة الخاليةْ
من الأوج والهاويةْ
لئلاَّ أقول: انتصرتُ
لئلاَّ أقول: خسرتُ الرهانْ!


من ديوان " اثر الفراشة": لون أصفر

لون أصفر

أزهارٌ صفراء توسِّع ضوء الغرفة. تنظر
إليّ أكثر مما أنظر اليها. هي أولى رسائل
الربيع. أهْدَتنِيها سيِّدةٌ لا تشغلها الحرب
عن قراءة ما تبقَّى لنا من طبيعة
متقشفة. أغبطها على التركيز الذي يحملها
الى ما هو أبعد من حياتنا المهلهلة...
أغبطها على تطريز الوقت بإبرة وخيط
أَصفر مقطوع من الشمس غير المحتلة.
أُحدِّق الى الأزهار الصفراء، وأُحسّ
بأنها تضيئني وتذيب عتمتي، فأخفّ
وأشفّ وأجاريها في تبادل الشفافية.
ويُغويني مجاز التأويل: الأصفر هو
لونُ الصوت المبحوح الذي تسمعه الحاسة
السادسة. صوت مُحايدُ النَّبرِ، صوت
عبّاد الشمس الذي لا يغيِّرُ دِينَه.
وإذا كان للغيرة – لونِهِ من فائدة،
فهي أن ننظر الى ما حولنا بفروسية
الخاسر، وأن نتعلم التركيز على تصحيح
أخطائنا في مسابقاتٍ شريفة!


من ديوان " اثر الفراشة": ليتني حجر

ليتني حجر
 
لا أَحنُّ الى أيِّ شيءٍ
فلا أَمسِ يمضي، ولا الغَدُ يأتي
ولا حاضري يتقدمُ أو يتراجعُ
لا شيء يحدث لي!
ليتني حجرٌ – قلتُ – يا ليتني
حجرٌ ما ليصقُلَني الماءُ
أخضرُّ، أصفرُّ... أُوضَعُ في حُجْرةٍ
مثل منحوتةٍ، أو تمارينَ في النحت...
أو مادةً لانبثاق الضروريِّ
من عبث اللاضروريِّ...
يا ليتني حجرٌ
كي أَحنَّ الى أيِّ شيء!


من ديوان " اثر الفراشة": دمٌ في النخيل، دمٌ في السحاب

دمٌ في النخيل، دمٌ في السحاب
 
يطير بها الصوتُ أعلى وأَبعد من
شاطئ البحر. تصرخ في ليل برّية،
لا صدى للصدى.
فتصير هي الصرخةَ الأبديةَ في خبرٍ
عاجلٍ، لم يعد خبراً عاجلاً
عندما
عادت الطائرات لتقصف بيتاً بنافذتين وباب!


من ديوان " اثر الفراشة" : البنتُ/ الصرخة


البنتُ/ الصرخة

على شاطئ البحر بنتٌ. وللبنت أَهلٌ
وللأهل بيتٌ. وللبيت نافذتان وبابْ...
وفي البحر بارجةٌ تتسلَّى
بصيدِ المُشاة على شاطئ البحر:
أربعةٌ، خمسةٌ، سبعةٌ
يسقطون على الرمل، والبنتُ تنجو قليلاً
لأن يداً من ضباب
يداً ما إلهيةً أسعفتها، فنادت: أَبي
يا أَبي! قُم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!
لم يُجِبْها أبوها المُسجَّى على ظلهِ
في مهب الغياب


ﻭﺍ ﺭَﺣﻤﺔً ﻟﻠﻌﺎﺷِﻘﻴﻦَ ﺗَﻜﻠّﻔﻮﺍ ﺳﺘﺮ ﺍﻟﻤَﺤﺒّﺔِ ﻭﺍﻟﻬَﻮﻯ ﻓَﻀّﺎﺡُ

ﻭﺍ ﺭَﺣﻤﺔً ﻟﻠﻌﺎﺷِﻘﻴﻦَ ﺗَﻜﻠّﻔﻮﺍ ﺳﺘﺮ ﺍﻟﻤَﺤﺒّﺔِ ﻭﺍﻟﻬَﻮﻯ ﻓَﻀّﺎﺡُ
ﺑِﺎﻟﺴﺮِّ ﺇِﻥ ﺑﺎﺣﻮﺍ ﺗُﺒﺎﺡُ ﺩِﻣﺎﺅُﻫﻢ ﻭﻛَﺬﺍ ﺩِﻣﺎﺀُ ﺍﻟﻌﺎﺷِﻘﻴﻦَ ﺗُﺒﺎﺡُ
ﻭﺇِﺫﺍ ﻫُﻢ ﻛَﺘَﻤﻮﺍ ﺗَﺤﺪّﺙ ﻋَﻨﻬُﻢ ﻋِﻨﺪَ ﺍﻟﻮﺷﺎﺓِ ﺍﻟﻤَﺪﻣﻊُ ﺍﻟﺴَﻔّﺎﺡُ
ﺃَﺣﺒﺎﺑﻨﺎ ﻣﺎﺫﺍ ﺍﻟَّﺬﻱ ﺃَﻓﺴﺪﺗﻢُ ﺑِﺠﻔﺎﺋﻜﻢ ﻏَﻴﺮ ﺍﻟﻔَﺴﺎﺩِ ﺻَﻼﺡُ
ﺧَﻔﺾَ ﺍﻟﺠَﻨﺎﺡ ﻟَﻜُﻢ ﻭﻟﻴﺲَ ﻋَﻠَﻴﻜُﻢ ﻟِﻠﺼَﺐّ ﻓﻲ ﺧَﻔﺾِ ﺍﻟﺠَﻨﺎﺡ ﺟُﻨﺎﺡُ
ﻭﺑَﺪَﺕ ﺷَﻮﺍﻫِﺪُ ﻟﻠﺴّﻘﺎﻡِ ﻋَﻠَﻴﻬﻢُ ﻓﻴﻬﺎ ﻟِﻤُﺸﻜﻞ ﺃﻣّﻬﻢ ﺇِﻳﻀﺎﺡُ
ﻓَﺈِﻟﻰ ﻟِﻘﺎﻛﻢ ﻧَﻔﺴﻪُ ﻣُﺮﺗﺎﺣﺔٌ ﻭﺇِﻟﻰ ﺭِﺿﺎﻛُﻢ ﻃَﺮﻓﻪ ﻃَﻤّﺎﺡُ
ﻋﻮﺩﻭﺍ ﺑِﻨﻮﺭِ ﺍﻟﻮَﺻﻞِ ﻣِﻦ ﻏَﺴَﻖ ﺍﻟﺪُّﺟﻰ ﻓَﺎﻟﻬَﺠﺮُ ﻟَﻴﻞٌ ﻭَﺍﻟﻮﺻﺎﻝُ ﺻَﺒﺎﺡُ
ﺻﺎﻓﺎﻫُﻢُ ﻓَﺼَﻔﻮﺍ ﻟَﻪُ ﻓَﻘُﻠﻮﺑﻬﻢ ﻓﻲ ﻧُﻮﺭِﻫﺎ ﺍﻟﻤِﺸﻜﺎﺓُ ﻭَﺍﻟﻤِﺼﺒﺎﺡُ
ﻭَﺗَﻤَﺘّﻌﻮﺍ ﻓَﺎﻟﻮَﻗﺖُ ﻃﺎﺏَ ﻟِﻘُﺮﺑِﻜُﻢ ﺭﺍﻕَ ﺍﻟﺸّﺮﺍﺏ ﻭَﺭَﻗّﺖِ ﺍﻷَﻗﺪﺍﺡُ
ﻳﺎ ﺻﺎﺡِ ﻟَﻴﺲَ ﻋَﻠﻰ ﺍﻟﻤُﺤﺐِّ ﻣَﻼﻣَﺔٌ ﺇِﻥ ﻻﺡَ ﻓﻲ ﺃُﻓﻖ ﺍﻟﻮِﺻﺎﻝِ ﺻَﺒﺎﺡُ
ﻻ ﺫَﻧﺐَ ﻟِﻠﻌُﺸّﺎﻕِ ﺇِﻥ ﻏَﻠَﺐَ ﺍﻟﻬَﻮﻯ ﻛِﺘﻤﺎﻧَﻬُﻢ ﻓَﻨﻤﺎ ﺍﻟﻐَﺮﺍﻡُ ﻓَﺒﺎﺡ

ﺍﻟﺴﻬﺮﻭﺭﺩﻱ