محمود درويش: إلى شاعر عراقي

إلى شاعرٍ عراقي ...

( 1 )
أُعِدُّ لأَرْثيكَ , عِشْرينَ عاماً مِنْ الحُبِّ , كُنْتُ وَحَيداً هناكَ تُؤَثِّثُ مَنْفى لسَيَّدَةِ الزَّيْزَفُونِ , وبَيْتا ,,, لِسَيِّدِنا في أعالي الكَلامِ .
تَكَلَّمْ لِنَصْعَدَ أَعْلى..وَ أَعْلَى ... وَأَعْلى ...
على سُلَّمِ الْبِئْرِ , يا صاحِبي , أَينَ أَنتَ ؟
تَقَدَّمْ لأَحْمِلَ عنكَ الكَلامَ .. وأَرْثيك /

... لو كانَ جِسْراً عَبَرْناهُ , لكنَّه الدَّارُ والهاوَية
وللقَمَر البابِليِّ على شَجَرِ اللَّيلِ مَمَلَكَةٌ لَمْ تَعُدْ
لَنا , مُنْذُ عادَ التَّتارُ على خَيْلِنا
والتَّتارُ الجُدُدْ يَجُرُّونَ أَسْماءَنا خَلْفَهُم في شَعابِ الجِبالِ , ويَنْسَونْنا
وَيَنْسَوْنَ فينا نَخيلاً ونَهْرَيْنِ :
 يَنْسَوْنَ فينا العِراقْ

أَما قُلْتَ لي في الطَّريقِ إلى الرِّيحِ :
عَمَّا قَليل سَنَشْحَنُ تاريخَنا بالمَعاني ,
وَتَنْطَفِئُ الحَربْ عمَّا قَليل
وَ عمَّا قَليل نُشَيِّدُ سُومَرَ , ثانِيَةً , في الأَغاني
وَنَفْتَحُ بابَ المَسارحِ للنَّاسِ والطَّيْرِ مِن كلّ جِنْسِ ؟
وَنَرْجِعُ مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ بِنا الرِّيح .../
(.... )

لَنا غُرَفٌ في حَدائِقِ آبَ , هُنا في البِلادِ الَّتي

( 2 )
تُحِبُّ الكِلابَ وتَكْرَهُ شَعْبْكَ واسْمَ الْجَنوبِ
لَنا بَقايا نِساءٍ طُردْنَ مِنْ الأُقْحُوانِ
لَنا أَصْدِقاءُ من الغَجَرِ الطَّيِّبينَ .
لَنا دَرَجُ الْبَارِ .
رامبو لَنا ,ولنا رَصيفٌ مِنَ الكَستَنْاءِ .
لَنا تكنولوجيا لِقَتْلِ الْعِراق

تَهُبُّ جَنُوبيّةٌ ريحُ مَوْتاكَ , تَسْأَلُني :
هَلْ أَراك ؟
أَقولُ : تَراني مساءً قَتيلاً على نَشْرَةِ الشَّاشَةِ الْخامِسَة
فَما نَفْعُ حُرِّيَّتي يا تَماثيلَ رودانَ ؟
لا تَتَساءَلْ , ولا تُعَلِّقْ على بَلَحِ النَّخْلِ ذاكرَتي جَرَساً .
قَدْ خَسِرْنا مَنافِينا مُنْذُ هَبَّتْ جَنوبِيَّةَ ريحُ مَوْتاك.../

.... لا بُدَّ مِنْ فَرَسٍ لْغَرِيبِ ليَتْبَعَ قَيْصَرَ , أَوْ
ليَرْجِعَ مِنْ لَسْعَةِ النَّايِ .
لاَ بُدَّ مِنْ فَرَسٍ للغَريبْ
أَما كانَ في وُسْعِنا أَنْ نَرى قَمَراً وَاحِداً لا يَدُلُّ
على امْرَأَةٍ ما ؟
أَما كان في وُسْعِنا أَنْ نُمَيِّزَ بَيْنَ البَصيرَةِ ,
يا صاحِبي , والبَصَرْ ؟

( 3 )
لَنا ما عَلَيْنا من النَّحْلِ وَالمُفْرداتِ .
خُلِقْنا لِنَكْتُبَ عَمَّا يُهَدِّدُنا مِنْ نساءٍ وَقَيْصَرَ ..
والأَرْضِ حِينَ تَصيرُ لُغَةْ ,
وَعَنْ سِرٍّ جلَجامشَ الْمُستَحيلِ , لِنَهْرُبَ مِنْ عَصْرِنا إِلى أَمْسِ خَمْرَتِنا الذَّهَبيِّ ذَهَبْنَا ,
وَسِرنْا إلى عُمْرِ حِكْمَتنا
وكانت أَغاني الحَنينِ عِراقّيَةً ,
 والعِراقُ نَخَيلٌ وَنَهْرانَ .../

... لِي قَمَرٌ في الرَّصافَةِ .
لِي سَمَكٌ في الفُراتِ ودِجْلَةْ
ولِي قارِئٌ في الجَنُوبِ , ولِي حَجَرُ الشَّمْسِ في نَيْنَوى ونَيْروزُ لِي في ضَفائِرِ كُرديّةٍ في شَمالِ الشَّجَنْ ...
ولِي وَرْدَةٌ فِي حَدائِقَ بابِلَ .
لي شاعِرٌ في بُوَيْب,
 ولي جُثَّتي تَحْتَ شَمْسَ العراق
ولا الغَربُ غَرْبٌ , تَوَحَّدَ إِخْوَتُنا في غَريزَةِ قابيلَ , لا تُعاتِبْ أَخاكَ ,
فإِنْ الْبَنَفْسَجَ شاهِدَةُ الْقَبر ..../

... قَبْرٌ لِباريسَ , لُنُدنَ , روما , نيويورك , موسكو , وقبر لِبَغْدادَ , هَلْ كانَ من حَقْها أَن تُصَدِّقُ ماضيَها المُرْتَقَبْ ؟
وَقَبْرٌ لإِيتاكَةِ الدَّرْبِ وَالْهَدَفِ الصَّعْبِ , قَبْرٌ لِيافا ...

( 4 )
وَقَبْرٌ لهِوميِّر أَيْضاً وَ لِلبُحْتُرِيِّ , وَقَبْرٌ هو الشَّعْرُ, قبرٌ من الرِّيحِ ... يا حَجَرَ الرُّوحِ ,
يا صَمْتَنا !
نُصَدِّقُ , كَي نُكْمِلَ التَّيهُ , أَنَ الخَريفَ تَغَيَّرَ فينا .. نَعَمْ , نَحْنُ أَوْراقُ هذا الصَّنَوَبَرِ , نَحْنُ التَّعَب..., وقَدْ خَفَّ , خارِجَ أجسادنا , كالنَّدى ... وَانْسَكَب
نَوارِسَ بيضاءَ , تبحثُ عن شُعَراءِ الْهَواجِس فينا ..
وعَنْ دَمْعَةِ الْعَرَبِيِّ الأَخيرةِ ,
 صَحْراء ... صَحْراء.... /

(....)
ولا صَوْتَ يَصْعَدُ , لا صَوْتَ يَهْبِطُ , بَعْدَ قَليل ..
سَنُفْرِغُ آخِرَ أَلْفاظنا في مَديحِ المَكانِ , وَبَعْدَ قليل سَنَرْنو إلى غَدنا , خَلْفَنا , في حَريرِ الكَلامِ القَديم
وسَوْفَ نُشاهِدُ أَحْلامَنا في المَمَرَّاتِ تَبْحَثُ عَنَّا
وعَنْ نَسْرِ أَعْلامِنا السُّود .../

صَحْراءُ للصَّوْتِ , صَحْراءُ للصَّمْتِ , صَحراء للْعَبَثِ الأَبَديّ
للَوْحِ الشَّرائِعِ صَحْراءُ , للكُتُبِ الْمَدْرَسِيَّةِ , للأَنبِياء وللَعُلَماءْ

( 5 )
لَشيكسبير صَحْراءُ , للباحِثينَ عنِ الله في الكائنَ الآدَمِيّ
هُنا يَكْتُبُ العَرَبيُّ الأَخِيرُ : أَنَا العَرَبِيُّ الَذي لَمْ يَكُنْ
أَنَا العَرَبِيُّ الَذي لَمْ يَكُنْ

قُلِ الآنِ إِنْكَ أَخْطَأْتَ , أَو لا تَقُلْ
فَلَنْ يَسْمَعَ المَيتونَ اعْتذارَكَ منهم , ولَنْ يَقْرَؤوا
مَجَلاّتِ قاتِلِهمْ كَيْ يَرَوْا ما يَرَوْنَ , ولن يَرْجعِوا إِلى الْبَصْرَةَ الأَبَدِيةِ كَيْ يَعْرِفوا ما صَنَعْتَ بأُمِّك ,
حِينَ انْتَبَهْتَ إلى زُرْقَةِ الْبَحْر .../
(....)

سَأُولَدُ مِنْكَ وَتُولَدُ مِنّي . رُوَيْداً  رُوَيْداً سأَخْلَعُ عَنْك أصابعَ مَوتايَ , أَزْرارَ قُمصانهمْ.
وبطاقاتِ ميلادهمْ وتخلعُ عنيِّ رسائلَ مَوْتاكَ للْقُدْس , ثُمَ نُنَظِّفُ نظَّرَتَيْنا من الدمِ , يا صاحِبي , كَيْ نُعيدَ قِراءَةَ كافْكا ونَفْتَحَ نافِذَتَيْنِ على شارِعِ الظِّلّ .../
... في داخِلي , لا تُصَدِّقْ دُخانَ الشِّتاءِ كثيراً
فعمَّا قليل سَيَخْرُجُ إِبْريلُ مِنْ نَوْمِنا , خارِجي داخِلي فلا تَكْتَرِثْ بِالتَّماثيلِ ... سَوْفَ تُطَرِّزُ بِنْتٌ عِراقيِّةٌ ثَوْبَها بأَوَّلِ زَهْرَةِ لَوْزِ ,
وتَكْتُبُ أَوَّلَ حَرْفٍ مِنَ اسْمِكَ
على طَرَف السَّهْمِ فَوْقَ اسْمِها ....
في مَهَبِّ الْعِراق ..

(من ديوان " أَحد عشر كوكباً " 1992)

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق