قصيدة الأرض ( مقطع ) لمحمود درويش

 قصيدة الأرض  
 
( مقطع )

مساءٌ صغيرٌ على قريةٍ مُهمَلهْ

وعينان نائمتانْ

أعود ثلاثين عاماً

وخمسَ حروب

وأشهد أن الزمانْ

يخبئ لي سنبلهْ



يغنّي المغنّي

عن النار والغرباء

وكان المساء مساء

وكان المغّني يُغَنّي



ويستجوبونه :

لماذا تغّني ؟

يردُّ عليهم :

لأنُي أُغنّي

وقد فتَّشوا صدرَهُ

فلم يجدوا غير قلبهْ

وقد فتشوا قلبَهُ

فلم يجدوا غير شعبهْ



وقد فتَّشوا صوتَهُ

فلم يجدوا غير حزنهْ

وقد فتَّشوا حزنَهُ

فلم يجدوا غير سجنهْ

وقد فتَّشوا سجنَهْ

فلم يجدوا غير أنفسهم في القيود



وراء التلال
ينام المغَّني وحيداً

وفي شهر آذار  ...

تصعد منه الظلال ,,, ,,, .



(من ديوان "أعراس" 1977) 

 

من روائع محمود درويش: ليل يفيض من الجسد

 ليلٌ يفيض من الجَسَد *

ياسَمينُ على لَيْلِ تَمَوزَ , أُغْنيَّةٌ

لغَريبَيْنِ يلتقيانِ على شارع

لا يؤدِّي إلى هَدَفٍ ..
مَنْ أَنا بعد عينين لُوزتَّينِ ؟

يقول الغريبْ

مَنْ أَنا بعد منفاكَ فيِّ ؟ تقَولُ الغريبْة

إذنْ , حسناً , فلنَكُنْ حَذِرَيْنِ لئلا

 نُحَرِّكَ مِلْحَ البحارِ القديمةِ في جَسَد يتذَكَّرُ ...

كانت تُعيدُ لها جَسَدَاً ساخناً ,

 ويُعيدُ لها جَسَداً ساخناً ,

هكذا يترُكُ العاشِقانِ الغريبانِ حُبَّهما فَوْضَوِيَّاً,

كما يتركان ثيابَهما الداخليَّة بين زُهور الملاءات ...

إن كُنْتَ حقاً حبيبي , فأَلِّفْ

نشيدَ أَناشيدَ لي , واحفُرِ اسمي

على جذْع رُمُانة في حدائِقِ بابلَ

إن كُنْتِ حقاً تُحِبِّينَني , فَضعي

حُلُمي في يديَّ . وقولي لَهُ , لابنِ مريمَ ,

كيف فَعَلْتَ بنا ما فعلتَ بنفسِكَ ,

يا سيِّدي ؟ هل لدينا من العَدْل ما سوف

يكفي ليجعلنا عادلين غداً ؟

كيف أٌُشفى من الياسَمين غداً ؟

كيف أٌُشفى من الياسَمين غداً ؟

يُعْتِمانِ معاً في ظلالِ تشعُّ على

سقف غُرْفَتِهِ : لا تكُنْ مُعِتْماً

بَعْدَ نهديَّ – قالت له ...

قال : نهداكِ ليلٌ يُضيءُ الضروريَّ

 نهداكِ ليلٌ يُقَبِّلُني , وامتلأنا أَنا

والمكانُ بليلٍ يَفيضُ من الكأسِ ...

تَضْحَكُ من وَصْفِهِ , ثم تضحك أَكثَرَ

حين تُخَبِّئُ مُنْحَدَرَ الليل في يدها ..
  يا حبيبي لو كان لي

أَنْ أَكونَ صَبيَّاً ... لكُنْتُكَ أَنتَ

  ولو كان لي أَنْ أَكونَ فتاةً

لكنتُك أَنتِ ! ..

وتبكي , كعادتها , عند عَوْدَتِها

من سماءِ نبيذيّةِ اللون : خُذْني

إلى بَلَد ليس لي طائرٌ أَزرقٌ

فوق صَفْصَافِةِ يا غريبُ

وتبكي , لتَقْطَعَ غاباتِها في الرحيلِ

الطويل إلى ذاتها : مَنْ أَنا ؟

مَنْ أَنا بعد مَنْفاك في جسدي ؟

آهِ منِّي , ومنكَ ومن بلدي

مَنْ أَنا بعد عينين لوزتَّين ؟

أَرِيني غَدي ! ..

هكذا يتركُ العاشقانِ وداعَهُما

فَوْضَوِيَّاً, كرائحةِ الياسمين على ليل تمُّوزَ.

في كُلِّ تمُّوزَ يَحْملُني الياسمينُ إلى

شارع , لا يؤدِّي إلى هَدَفٍ ,

بَيْدَ  أَني أُتابعُ أُغنيّتي ..



(من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا" 1995 ) 

 

مطار اثينا من ديوان "ورد أقل" لمحمود درويش

 مطار أثينا

مَطَارُ أَثِينَا يُوزِّعُنَا للِمْطَارَات .
قَالَ المُقَاتِلُ : أَيْنَ أُقَاتِلُ ؟
صَاحَتْ بِهِ حَامِلٌ : أَيْنَ أُهْديِكَ طِفْلَكَ ؟
قَالَ المُوَظَّفُ : مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ ؟
أًجَبْنَا : مِنْ البَحْرِ .
قَالُوا : إِلَى أَيْنَ تَمْضُون ؟
قُلْنا : إلى البَحْرِ .
قَالُوا : و أَيْنَ عَنَاوِينُكُم ؟
قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ جَمَاعَتِنا : بُقْجَتي قَريَتي .
في مَطَارِ أَثِينَا انْتَظَرْنَا سنِيناً .
تَزَوَّجَ شَابٌّ فَتَاةً وَلَمْ يَجِدَا غُرْفَةً لِلزَّوَاجِ السَّريعِ
تَسَائَلَ : أَيْنَ أَفُضُّ بَكَارتَهَا ؟ فَضَحِكْنَا وَقُلْنَا لَهُ : يَا فَتى , لاَ مَكَانَ لِهَذَا السُّؤالِ .
وَقَالَ المُحلِّل فِيناَ : يَمُوتُونَ مِنْ أَجلْ أَلاَّ يَمُوتُوا سَهْواً .
وَقَالَ الأَديِبْ : مُخَيَّمُنَا سَاقِِطٌ لاَ محَالة .
مَاذَا يُرِيدُون مِنَّا ؟
وَكَانَ مَطَارُ أَثِينَا يُغَيِّرُ سُكَّانَهُ كُلَّ يَوْمٍ .
وَنَحْنُ بَقِينَا مَقَاعِد فَوْفَ المَقَاعِدِ نَنْتَظِرُ البَحْرَ , كَمْ سَنةً يَا مَطَارَ أَثِينَا ! ....


(من ديوان "ورد أقل" 1986) 

 

موسيقى عربية, ليتَ الفتى حَجَرٌ لمحمود درويش

 " ليتَ الفتى حَجَرٌ "


يا ليتني حَجَرُ ...

 أكُلَّما شَرَدَتْ عينانِ

  شرَّدنَي

   هذا السحابُ سحاباً

 كُلَّما خَمَشَتْ عصفورةٌ أُفقاً

فَتَّشْتُ عن وَثَنِ ؟

 أكُلَّما لَمَعَتْ جيتارَةٌ

خَضَعتْ

روحي لمصرعها في رَغْوَةِ السُّفُنِ

أكُلَّما وَجَدَتْ أُنثى أُنوثتها

أضاءني البرقُ من خصري

 وأحرقني !

أكُلَّما ذَبُلَتْ خُبّيزَةٌ

وبكى طيرٌ على فننِ

   أصابني مَرَضٌ

   أو صِحْتُ : يا وطني !

 أكُلَّما نَوَّرَ اللوزُ اشتعلتُ بِهِ

 وكلما احترقا

كنت الدخانَ ومنديلاً

تمزقني

ريحُ الشمال , ويمحو وجهيَ المَطَرُ ؟

ليت الفتى حَجَر

 يا ليتني حَجَرُ ...

(من ديوان "حصار لمدائح البحر" 1984) 




هدنة مع المغول أمام غابة السنديان لمحمود درويش

هدنة مع المغول أمام غابة السنديان ...

(1)
 
كائنات من السنْدِيان تُطيلُ الوقوفَ على التلّ .. قَدْ يصعَدُ العُشْبُ من خبزنا نحوها إِنْ تركنا المكانَ , وَقَدْ يهبط اللازوردُ السماويُّ منها إِلى الظلِّ فوق الحصونْ .
مَنْ سيملأ فُخُارنا بعدنا ؟
مَنْ يُغَيِّرُ أَعداءنا عندما يعرفونْ أَننا صاعدون إِلى التلِّ كي نمدَحَ الله .. في كائناتٍ من السنديانْ ؟
*
كلُّ شيء يدلُّ على عَبَث الريح لكننا لا نَهُبُّ هباءْ رُبَّما كان هذا النهارُ أَخَفَّ علينا من الأَمس , نجن الذينْ قد أَطالوا المكوثَ أَمام السماء , ولم يعبدوا غير ما فَقَدُوا من عبادتهمْ رُبَّما كانت الأَرضُ أَوسعَ من وَصفْها .
ربما كان هذا في الطريقُ دخولاً مع الريح .
في غابة السنديانْ .

*
الضحايا تَمُرُّ من الجانبينْ , تقول كلاماً أَخيراً وتسقط في عالَمٍ واحدٍ .
سوف ينتصرُ النسْرُ والسنديانُ عليها .


(2)
 
فلا بُدَّ مِنْ هُدْنَةٍ للشقائق في السهل كي تُخْفِيَ الميتين على الجانبين , وكيْ نَتَبَادَلَ بَعْض الشتائم قبل الوصول إِلى التلّ .
لا بُدَّ مِنْ تَعَبٍ آدمي يُحَوِّل تلك الخيولَ إِلى ..كائناتٍ من السنديانْ

*
الصدى واحدٌ في البراري : صدى ,والسماءُ على حجر غرْبَةٌ عَلَّقْتها الطيورُ على لا نهايات هذا الفضاء , وطارتْ... والصدى واحدٌ في الحروب الطويلة : أُمٌّ , أَبٌ , وَلَدٌ صَدَّقوا أَنَّ خلف البحيرات خيلاً تعود إِليهم مُطَهَّمةً بالرجاء الأَخيْر فأَعدُّوا لأحلامهم قهوةً تمنع النوَمَ ..
في شَبَح السنديانْ

*

كُلُّ حربٍ تُعَلِّمنا أَن نحبَّ الطبيعة أَكثرَ : بعد الحصارْ نَعْتَني بالزنابقِ أَكثرَ , نقطف قُطْنَ الحنان من اللَوْزِ في شهر آذارَ .
نزرع غاردينيا في الرخام , ونَسْقي نباتاتِ جيراننا عندما يذهبون إِلى صَيْد غزلاننا .


( 3 )
 
فمتى تَضَعُ الحربُ أَوزارها كي نفُكَّ خُصُورَ النساء على التلّ ..
من عُقدة الرَّمز في السنديانْ ؟

*
ليت أَعدائنا يقرءون رسائلنا مرتين , ثلاثاً .. ليعتذروا للفراشة عن لعبة النار ..
في غابة السنديانْ

*
كم أردنا السلامَ لسيدنا في الأعالي ..لسيدنا في الكُتُبْ ..
كم أَردنا السلام لغازلة الصوف .. للطفل قرب المغارةْ لِهُواة الحياة ..
لأولاد أعدائنا في مخابئهمْ.. للمَغُولْ عندما يذهبون إِلى ليل زوجاتهم , عندما يرحلونْ عن برِاعم أزهارنا الآن .. عَنَّا ,
وعن ورق السنديانْ

*
الحروب تُعَلِّمنا أَن نذوق الهواء وأَن نمدح الماء.
كَمْ ليلةً سوف نفرح بالحُمُّص الصلْب والكستنا في جيوب معاطفنا ؟
أَمْ سننسى مهارتنا في امتصاص الرذاذ ؟
ونسأَل : هَلْ كان في وُسْع مَنْ مات أَلاَّ يموت ليبدأ سيرتَهُ من هنا ؟


( 4 )

رُبَّما نستطيع مديح النبيذ ونرفعُ نخْباً لأَرملة السنديانْ

*
كُلُّ قَلْبٍ هنا لا يردُّ على الناي يسقط في شَرَك العنكبوت .
تمهَّلْ تمهَّلْ لتسمع رَجْعَ الصدى فوق خيل العَدُوّ , فإِنُ المغُول يُحبُّون خمرتنا ويريدون أَن يَرْتَدوا جلد زوجاتنا في الليالي , وأَن يأخذوا شعراء القبيلة أسرى ,
 وأَنْ يقطعُوا شَجَرَ السنديانْ

*
 المغُول يريدوننا أَن نكون كما يبتغون لنا أن نكونْ حفنةً من هبوب الغبار على الصين أَو فارسٍ , ويريدوننا أَن نُحبَّ أَغانِيَهُمْ كُلَّها كي يَحُلَّ السلامُ الذي يطلبونْ ...
سوف نحفظ أَمثالهم ... سوف نغفر أَفعالَهُم عندما يذهبونْ مَعَ هذا المساء إِلى ريح أجدادهمْ ...
خلفَ أُغنيةِ السنديانْ
*
لمْ يجيئوا لينتصروا , فالخرافةُ ليست خرافتَهُمْ .
إِنهم يهبطونْ من رحيل الخيولِ إِلى غرب آسيا المريضِ , ولا يعرفونْ ..ومعجزةَ السنديانْ

 (5)
 
* الصّدَى واحدٌ في الليالي .
على قمة الليل نُحْصي النجومَ على صدر سَيِّدنا, عُمْرَ أَولادنا – كبروا سَنَةً بعدنا – غَنَمَ الأَهل تحت الضباب , وأَعدادَ قتلى المغول, وأعدادَنا والصدى واحدٌ في الليالي : سنرجع يوماً , فلا بُدَّ من شاعرٍ فارسيٍّ
لهذا الحنين ..
إلى لُغَةِ السنديانْ
*
الحُروبُ تعلَّمنا أَن نحبَّ التفاصيل : شكْل مفاتيحِ أَبوابنا , أن نُمَشِّطَ حنطتنا بالرموش , ونمشي خِفَافاً على أرضنا , أَن نقدِّسَ ساعات قبل الغروب على شجَر الزَّنْزَلَخْت ...
والحروبُ تُعَلِّمُنا أَن نرى صورة الله في كل شيء , وأَنْ نَتَحَمَّل عبء الأساطير كي نُخْرِجَ الوحشَ ...
من قصَّة السنديانْ ..
*
كم سنضحك من سُوس خُبْز الحروب ومن دُود ماء الحروب , إِذا ما انتصرنا نُعَلِّقُ أَعلامنا السودَ فوق حبال الغَسيلْ ثم نَصْنَع منها جواربَ ...وأَما النشيدُ , فلا بُدَّ من رَفْعِهِ في جنازات أَبطالنا الخالدين ..وأََما السبايا , فلا بُدَّ من عَتْقهنَّ, ولا بُدَّ من مَطَرٍ
فَوق ذاكرة السنديانْ

( 6 )

خَلْفَ هذا المساء نرى ما تبقَّى من الليل , عما قليلْ يشرب القَمَرْ الحُرُّ شايَ المُحَارب تحت الشجَرْ قَمَرٌ واحدٌ للجميع على الخندقين لَهُمْ ولنا , هَلْ لَهُمْ خلف تلك الجبال بيوتٌ من الطين , شايٌ , ونايٌ , وهَلْ عندهُمْ حَبَقٌ مثلنا يُرجع الذاهبين من الموت ...
في غابة السنديانْ ؟

*
وأَخيراً , صعدْنا إِلى التَلِّ ها نحن نرتفع الآن فوق جذور الحكاية ..ينبت عُشْبٌ جديد على دمنا وعلى دمهِمْ .
سوف نحشو بنادقنا بالرياحين , سوف نُطَوِّق أَعناقَ ذاك الحمام بأَوسمة العائدين ...ولكننا لم نجد أَحداً يقبل السِّلْم .. لا نحن نحن ولا غيرنا غيرنا
البنَادِقُ مكسورة .. والحمامُ يطير بعيداً بعيداً ..لم نجد احداً ههنا
لم نجد أَحداً ...
لم نجد غابة السنديانْ ! 



كلمات قمة في الروعة

ﺇﻥْ ﻟَﻢ ﺗﺠِﺪ ﻣَﻦْ ﻳُﻔﺮﺣﻚ ،
ﻣَﻦْ ﻳﻘﻒ ﺟﻮﺍﺭﻙ ،
ﻣَﻦْ ﻳُﻬﺪﻳﻚَ ﻭﺭﺩﺍً ﺇﻥْ ﻛُﻨﺖَ ﺗُﺤﺐ ﺍﻟﻮﺭﺩ ﻛﺜﻴﺮﺍً ،
ﺇﻥْ ﻟﻢ ﺗﺠﺪ ﻣَﻦْ ﻳُﺤﺒﻚ ،
ﻟَﺎ ﺗﺤﺰﻥ ،
ﺍﺻﻨﻊ ﻟﻨﻔﺴﻚَ ﻣِﻦْ ﺫﺍﺗﻚ ،
ﺭﻭﺣﺎً ﺗﺒﻘﻰ ﻣﻌﻚ ،
ﺗﺮﺍﻓﻘﻚ ،
ﺗُﺴﻌﺪﻙ ،
ﻭﻟَﺎ ﺑﺄﺱ ﺇﻥْ ﻗﺪّﻣﺖ ﻟﻨﻔﺴﻚَ ﻭﺭﺩﺍً ، ﻭﻏﻠّﻔﺘﻪ ﺑـ ﻣﺎﺀ ﺍﻟﺤُﺐ ،
ﻭﻛﺘﺒﺖَ ﺭﺳﺎﻟﺔ ﻟﻨﻔﺴﻚ ، ﻭﻟَﺎ ﺿﻴﺮَ ﺇﻥْ ﺭﺳﻤﺖَ ﺑﺴﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺷﻔﺎﻫﻚ ،
ﻭﻓﻲْ ﻗﻠﺒﻚ ،
ﻷِﻥّ ﻫُﻨﺎﻙَ ﻣَﻦْ ﻳُﺤﺒﻚ ، ﻭﻳﻬﺘﻢ ﻟﻚ !
ﺟﻤﻴﻞٌ ﻫﻮَ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠُﻨﻮﻥ ، ﻓﻲْ ﺳﺒﻴﻞِ ﺇﻓﺮﺍﺣﻚ ،
ﺍﻟﻤﻬﻢ ﺍﻥْ ﻟَﺎ ﺗﺤﺰﻥ ،
ﻭﺃﻥْ ﺗﻔﺮَﺡ ،
ﻓـ ﻗﻠﺒﻚ ﻟَﺎ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﻣﻨﻚ ﺇﻟّﺎ ﺍﻟﻔﺮﺡ

قصيدة يحبونني ميتا لمحمود درويش

 يحبّونني ميتاً


يُحبُّونَني مَيِّتاً لِيَقُولُوا : لَقَدْ كَان مِنَّا , وَكَانَ لَنَا .

سَمِعْتُ الخُطَى ذَاتَهَا , مُنْذُ عِشرينَ عَاماً تدقُّ عَلَى حَائِطِ اللَّيْلِ .

تَأتِي وَلاَ تَفْتَحُ البَابَ .

لَكِنَّهَا تَدْخُلُ الآن .

يَخْرُجُ مِنْهَا الثَّلاَثَةُ : شَاعِرٌ , قَاتِلٌ , قَارئٌ .

أَلاَ تَشْرَبُونَ نَبِيذاً ؟ سَأَلْتُ , سَنَشْرَبُ .

قَاُلوا . مَتَى تُطْلِقُونَ الرَّصاصَ عَلَيَّ ؟ سَأَلْتُ .

أجابوا : تَمَهَّلْ ! وَصفُّوا الكُؤُوسَ وَرَاحُوا يُغَنُّونَ لِلشَّعْبِ , قُلْتُ : مَتَى تَبْدَءونَ اغْتِيَالي ؟

فَقَالُوا : ابْتَدَأنَا ... لمَاذَا بَعَثْتَ إلَى الرُّوحِ أَحْذِيَةً !   كَيْ تَسيِرَ عَلَى الأَرْضِ , قُلْتُ .

فَقَالُوا : لِمَاذَا كَتَبْتَ القَصيِدَةَ بَيْضَاءَ والأَرْضُ سَوْدَاءُ جِدَّاً .

أَجَبْتُ : لأَنَّ ثَلاَثِينَ بَحْراًُ تَصُبُّ بِقَلْبِي .

فَقَالوا : لِمَاذا تُحُبُّ النَّبِيذَ الفَرَنْسِيّ ؟

قُلْتُ : لأَنِّي جَدِيرٌ بأَجْمَل امْرأَةٍ .

كَيْفَ تَطْلُبُ مَوْتَكَ ؟

أَزْرَق مِثْل نُجُومٍ تَسِيلُ مِنَ السَّقْف – هَلْ تَطْلُبُونَ المَزِيدَ مِنَ الخَمْر ؟

قَالوا : سَنَشْرَبُ .

قُلْتُ : سَأَسْأَلُكُمْ أَنْ تَكُونُوا بَطِئِين , أَنْ تَقْتُلُوني رُوَيْداً رُوَيْداً لأَكْتُبَ شعْراً ... 


من قصيدة انا يوسف يا ابي لمحمود درويش


 أنا يوسف يا أبي


أَنا يُوسفٌ يَا أَبِي .

 يَا أَبِي إِخْوَتِي لاَ يُحِبُّونَني , لاَ يُرِدُونَني بَيْنَهُم يَا أَبِي .

يَعْتَدُونَ عَلَيَّ وَيَرْمُونَني بِل حَصَى وَالكَلاَمِ .

 يُرِدُونَني أَنْ أَمُوت لِكَيْ يمْدَحُونِي .



وَهُمْ أَوْصَدُوا بَاب َبَيْتِكَ دُونِي .

وَهُمْ طَرَدُونِي مِنَ الَحَقْلِ.

هُمْ سَمَّمُوا عِنَبِي يَا أَبِي .

وَهُمْ حَطَّمُوا لُعَبِي يَا أَبِي .



حَينَ مَرَّ النَّسيِمُ وَلاَعَبَ شَعْرِيَ غَارُوا وَثَارُوا عَلَيَّ وَثَارُوا عَلَيْكَ .

 فَمَاذَا صَنَعْتُ لَهُمْ يَا أَبِي .

الفَرَاشَاتُ حَطَّتْ عَلَى كَتْفَيَّ , وَمَالَتْ عَلَيَّ السَّنَابِلُ , وَ الطَّيْرُ حَطَّتْ على راحتيَّ .

فَمَاذَا فَعَلْتُ أَنَا يَا أَبِي .

 وَلِمَاذَا أَنَا ؟

أَنْتْ سَمَّيْتَِني يُوسُفاً , وَهُوُ أَوْقَعُونِيَ فِي الجُبِّ , وَاتَّهَمُوا الذِّئْبَ ؛ وَ الذِّئْبُ أَرْحَمُ مِنْ إِخْوَتِي ...

أَبَتِ !

 هَلْ جَنَيْتُ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَمَا قُلْتُ إِنِّي :

رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً , والشَّمْس والقَمَرَ ,

رَأّيْتُهُم لِي سَاجِدِينْ ؟؟
 
 

قصيدة لاعب النرد لمحمود درويش

لاعب النرد

مَنْ أَنا لأقول لكمْ
ما أَقول لكمْ ؟
وأَنا لم أكُنْ حجراً صَقَلَتْهُ المياهُ
فأصبح وجهاً
ولا قَصَباً ثقَبتْهُ الرياحُ
فأصبح ناياً ...

أَنا لاعب النَرْدِ ،
أَربح حيناً وأَخسر حيناً
أَنا مثلكمْ
أَو أَقلُّ قليلاً ...
وُلدتُ إلى جانب البئرِ
والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ
وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ
وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً
وانتميتُ إلى عائلةْ
مصادفَةً ،
ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ
وأَمراضها :

أَولاً - خَلَلاً في شرايينها
وضغطَ دمٍ مرتفعْ
ثانياً - خجلاً في مخاطبة الأمِّ والأَبِ
والجدَّة - الشجرةْ
ثالثاً - أَملاً في الشفاء من الانفلونزا
بفنجان بابونج ٍ ساخن ٍ
رابعاً - كسلاً في الحديث عن الظبي والقُبَّرة
خامساً - مللاً في ليالي الشتاءْ
سادساً - فشلاً فادحاً في الغناءْ ...

ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً ...
ومصادفةً أَن أَرى قمراً
شاحباً مثل ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات
ولم أَجتهد
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً !

كان يمكن أن لا أكونْ
كان يمكن أن لا يكون أَبي
قد تزوَّج أُمي مصادفةً
أَو أكونْ
مثل أُختي التي صرخت ثم ماتت
ولم تنتبه
إلى أَنها وُلدت ساعةً واحدةْ
ولم تعرف الوالدة ْ ...
أَو : كَبَيْض حَمَامٍ تكسَّرَ
قبل انبلاج فِراخ الحمام من الكِلْسِ /

كانت مصادفة أَن أكون
أنا الحيّ في حادث الباصِ
حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّة ْ
لأني نسيتُ الوجود وأَحواله
عندما كنت أَقرأ في الليل قصَّةَ حُبٍّ
تَقمَّصْتُ دور المؤلف فيها
ودورَ الحبيب - الضحيَّة ْ
فكنتُ شهيد الهوى في الروايةِ
والحيَّ في حادث السيرِ /

لا دور لي في المزاح مع البحرِ
لكنني وَلَدٌ طائشٌ
من هُواة التسكّع في جاذبيّة ماءٍ
ينادي : تعال إليّْ !
ولا دور لي في النجاة من البحرِ
أَنْقَذَني نورسٌ آدميٌّ
رأى الموج يصطادني ويشلُّ يديّْ

كان يمكن أَلاَّ أكون مُصاباً
بجنِّ المُعَلَّقة الجاهليّةِ
لو أَن بوَّابة الدار كانت شماليّةً
لا تطلُّ على البحرِ
لو أَن دوريّةَ الجيش لم تر نار القرى
تخبز الليلَ
لو أَن خمسة عشر شهيداً
أَعادوا بناء المتاريسِ
لو أَن ذاك المكان الزراعيَّ لم ينكسرْ
رُبَّما صرتُ زيتونةً
أو مُعَلِّم جغرافيا
أو خبيراً بمملكة النمل
أو حارساً للصدى !

مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم
عند باب الكنيسةْ
ولستُ سوى رمية النرد
ما بين مُفْتَرِس ٍ وفريسةْ
ربحت مزيداً من الصحو
لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ
بل لكي أَشهد المجزرةْ

نجوتُ مصادفةً : كُنْتُ أَصغرَ من هَدَف عسكريّ
وأكبرَ من نحلة تتنقل بين زهور السياجْ
وخفتُ كثيراً على إخوتي وأَبي
وخفتُ على زَمَن ٍ من زجاجْ
وخفتُ على قطتي وعلى أَرنبي
وعلى قمر ساحر فوق مئذنة المسجد العاليةْ
وخفت على عِنَبِ الداليةْ
يتدلّى كأثداء كلبتنا ...
ومشى الخوفُ بي ومشيت بهِ
حافياً ، ناسياً ذكرياتي الصغيرة عما أُريدُ
من الغد - لا وقت للغد -

أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى / أرى / لا أرى / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَى / ويغمى عليّ /

ومن حسن حظّيَ أن الذئاب اختفت من هناك
مُصَادفةً ، أو هروباً من الجيش ِ /

لا دور لي في حياتي
سوى أَنني ،
عندما عَـلَّمتني تراتيلها ،
قلتُ : هل من مزيد ؟
وأَوقدتُ قنديلها
ثم حاولتُ تعديلها ...

كان يمكن أن لا أكون سُنُونُوَّةً
لو أرادت لِيَ الريحُ ذلك ،
والريح حظُّ المسافرِ ...
شمألتُ ، شرَّقتُ ، غَرَّبتُ
أما الجنوب فكان قصياً عصيّاً عليَّ
لأن الجنوب بلادي
فصرتُ مجاز سُنُونُوَّةٍ لأحلِّق فوق حطامي
ربيعاً خريفاً ..
أُعمِّدُ ريشي بغيم البحيرةِ
ثم أُطيل سلامي
على الناصريِّ الذي لا يموتُ
لأن به نَفَسَ الله
والله حظُّ النبيّ ...

ومن حسن حظّيَ أَنيَ جارُ الأُلوهةِ ...
من سوء حظّيَ أَن الصليب
هو السُلَّمُ الأزليُّ إلى غدنا !

مَنْ أَنا لأقول لكم
ما أقولُ لكم ،
مَنْ أنا ؟

كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ
والوحي حظُّ الوحيدين
"إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ"
على رُقْعَةٍ من ظلامْ
تشعُّ ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلامْ
كريش على الرملِ /

لا دَوْرَ لي في القصيدة
غيرُ امتثالي لإيقاعها :
حركاتِ الأحاسيس حسّاً يعدِّل حساً
وحَدْساً يُنَزِّلُ معنى
وغيبوبة في صدى الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت
من "أَنايَ" إلى غيرها
واعتمادي على نَفَسِي
وحنيني إلى النبعِ /

لا دور لي في القصيدة إلاَّ
إذا انقطع الوحيُ
والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ

كان يمكن ألاَّ أُحبّ الفتاة التي
سألتني : كمِ الساعةُ الآنَ ؟
لو لم أَكن في طريقي إلى السينما ...
كان يمكن ألاَّ تكون خلاسيّةً مثلما
هي ، أو خاطراً غامقاً مبهما ...

هكذا تولد الكلماتُ . أُدرِّبُ قلبي
على الحب كي يَسَعَ الورد والشوكَ ...
صوفيَّةٌ مفرداتي . وحسِّيَّةٌ رغباتي
ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ
إذا التقتِ الاثنتان ِ :
أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ
يا حُبّ ! ما أَنت ؟ كم أنتَ أنتَ
ولا أنتَ . يا حبّ ! هُبَّ علينا
عواصفَ رعديّةً كي نصير إلى ما تحبّ
لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ .
وذُبْ في مصبّ يفيض من الجانبين .
فأنت - وإن كنت تظهر أَو تَتَبطَّنُ -
لا شكل لك
ونحن نحبك حين نحبُّ مصادفةً
أَنت حظّ المساكين /

من سوء حظّيَ أَني نجوت مراراً
من الموت حبّاً
ومن حُسْن حظّي أنيَ ما زلت هشاً
لأدخل في التجربةْ !

يقول المحبُّ المجرِّبُ في سرِّه :
هو الحبُّ كذبتنا الصادقةْ
فتسمعه العاشقةْ
وتقول : هو الحبّ ، يأتي ويذهبُ
كالبرق والصاعقة

للحياة أقول : على مهلك ، انتظريني
إلى أن تجفُّ الثُمَالَةُ في قَدَحي ...
في الحديقة وردٌ مشاع ، ولا يستطيع الهواءُ
الفكاكَ من الوردةِ /
انتظريني لئلاَّ تفرَّ العنادلُ مِنِّي
فاُخطئ في اللحنِ /
في الساحة المنشدون يَشُدُّون أوتار آلاتهمْ
لنشيد الوداع . على مَهْلِكِ اختصريني
لئلاَّ يطول النشيد ، فينقطع النبرُ بين المطالع ،
وَهْيَ ثنائيَّةٌ والختامِ الأُحاديّ :
تحيا الحياة !
على رسلك احتضنيني لئلاَّ تبعثرني الريحُ /

حتى على الريح ، لا أستطيع الفكاك
من الأبجدية /

لولا وقوفي على جَبَل ٍ
لفرحتُ بصومعة النسر : لا ضوء أَعلى !
ولكنَّ مجداً كهذا المُتوَّجِ بالذهب الأزرق اللانهائيِّ
صعبُ الزيارة : يبقى الوحيدُ هناك وحيداً
ولا يستطيع النزول على قدميه
فلا النسر يمشي
ولا البشريُّ يطير
فيا لك من قمَّة تشبه الهاوية
أنت يا عزلة الجبل العالية !

ليس لي أيُّ دور بما كُنْتُ
أو سأكونْ ...
هو الحظُّ . والحظ لا اسم لَهُ
قد نُسَمِّيه حدَّادَ أَقدارنا
أو نُسَمِّيه ساعي بريد السماء
نُسَمِّيه نجَّارَ تَخْتِ الوليد ونعشِ الفقيد
نسمّيه خادم آلهة في أساطيرَ
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأولمب ...
فصدَّقهم باعةُ الخزف الجائعون
وكَذَّبَنا سادةُ الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال
هو الواقعيُّ على خشبات المسارح ِ /

خلف الكواليس يختلف الأَمرُ
ليس السؤال : متى ؟
بل : لماذا ؟ وكيف ؟ وَمَنْ

مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم ؟

كان يمكن أن لا أكون
وأن تقع القافلةْ
في كمين ، وأن تنقص العائلةْ
ولداً ،
هو هذا الذي يكتب الآن هذي القصيدةَ
حرفاً فحرفاً ، ونزفاً ونزفاً
على هذه الكنبةْ
بدمٍ أسود اللون ، لا هو حبر الغراب
ولا صوتُهُ ،
بل هو الليل مُعْتَصراً كُلّه
قطرةً قطرةً ، بيد الحظِّ والموهبةْ

كان يمكن أن يربح الشعرُ أكثرَ لو
لم يكن هو ، لا غيره ، هُدْهُداً
فوق فُوَهَّة الهاويةْ
ربما قال : لو كنتُ غيري
لصرتُ أنا، مرَّةً ثانيةْ

هكذا أَتحايل : نرسيس ليس جميلاً
كما ظنّ . لكن صُنَّاعَهُ
ورَّطوهُ بمرآته . فأطال تأمُّلَهُ
في الهواء المقَطَّر بالماء ...
لو كان في وسعه أن يرى غيره
لأحبَّ فتاةً تحملق فيه ،
وتنسى الأيائل تركض بين الزنابق والأقحوان ...
ولو كان أَذكى قليلاً
لحطَّم مرآتَهُ
ورأى كم هو الآخرون ...
ولو كان حُرّاً لما صار أُسطورةً ...

والسرابُ كتابُ المسافر في البيد ...
لولاه ، لولا السراب ، لما واصل السيرَ
بحثاً عن الماء . هذا سحاب - يقول
ويحمل إبريق آماله بِيَدٍ وبأخرى
يشدُّ على خصره . ويدقُّ خطاه على الرمل ِ
كي يجمع الغيم في حُفْرةٍ . والسراب يناديه
يُغْويه ، يخدعه ، ثم يرفعه فوق : إقرأ
إذا ما استطعتَ القراءةَ . واكتبْ إذا
ما استطعت الكتابة . يقرأ : ماء ، وماء ، وماء .
ويكتب سطراً على الرمل : لولا السراب
لما كنت حيّاً إلى الآن /

من حسن حظِّ المسافر أن الأملْ
توأمُ اليأس ، أو شعرُهُ المرتجل

حين تبدو السماءُ رماديّةً
وأَرى وردة نَتَأَتْ فجأةً
من شقوق جدارْ
لا أقول : السماء رماديّةٌ
بل أطيل التفرُّس في وردةٍ
وأَقول لها : يا له من نهارْ !

ولاثنين من أصدقائي أقول على مدخل الليل :
إن كان لا بُدَّ من حُلُم ، فليكُنْ
مثلنا ... وبسيطاً
كأنْ : نَتَعَشَّى معاً بعد يَوْمَيْنِ
نحن الثلاثة ،
مُحْتَفلين بصدق النبوءة في حُلْمنا
وبأنَّ الثلاثة لم ينقصوا واحداً
منذ يومين ،
فلنحتفل بسوناتا القمرْ
وتسامُحِ موت رآنا معاً سعداء
فغضَّ النظرْ !

لا أَقول : الحياة بعيداً هناك حقيقيَّةٌ
وخياليَّةُ الأمكنةْ
بل أقول : الحياة ، هنا ، ممكنةْ

ومصادفةً ، صارت الأرض أرضاً مُقَدَّسَةً
لا لأنَّ بحيراتها ورباها وأشجارها
نسخةٌ عن فراديس علويَّةٍ
بل لأن نبيّاً تمشَّى هناك
وصلَّى على صخرة فبكتْ
وهوى التلُّ من خشية الله
مُغْمىً عليه

ومصادفةً ، صار منحدر الحقل في بَلَدٍ
متحفاً للهباء ...
لأن ألوفاً من الجند ماتت هناك
من الجانبين ، دفاعاً عن القائِدَيْنِ اللذين
يقولان : هيّا . وينتظران الغنائمَ في
خيمتين حريرَتَين من الجهتين ...
يموت الجنود مراراً ولا يعلمون
إلى الآن مَنْ كان منتصراً !

ومصادفةً ، عاش بعض الرواة وقالوا :
لو انتصر الآخرون على الآخرين
لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ أُخرى

"أُحبك خضراءَ" . يا أرضُ خضراءَ . تُفَّاحَةً
تتموَّج في الضوء والماء . خضراء . ليلُكِ
أَخضر . فجرك أَخضر . فلتزرعيني برفق...
برفق ِ يَدِ الأم ، في حفنة من هواء .
أَنا بذرة من بذورك خضراء ... /

تلك القصيدة ليس لها شاعر واحدٌ
كان يمكن ألا تكون غنائيَّةَ ...

من أنا لأقول لكم
ما أَقول لكم ؟
كان يمكن أَلاَّ أكون أَنا مَنْ أَنا
كان يمكن أَلاَّ أكون هنا ...

كان يمكن أَن تسقط الطائرةْ
بي صباحاً ،
ومن حسن حظّيَ أَني نَؤُوم الضحى
فتأخَّرْتُ عن موعد الطائرةْ
كان يمكن أَلاَّ أرى الشام والقاهرةْ
ولا متحف اللوفر ، والمدن الساحرةْ

كان يمكن ، لو كنت أَبطأَ في المشي ،
أَن تقطع البندقيّةُ ظلِّي
عن الأرزة الساهرةْ

كان يمكن ، لو كنتُ أَسرع في المشي ،
أَن أَتشظّى
وأصبَح خاطرةً عابرةْ

كان يمكن ، لو كُنْتُ أَسرف في الحلم ،
أَن أَفقد الذاكرة .

ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً
فأصغي إلى جسدي
وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ
فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً
وأُخيِّب ظنّ العدم

مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم ؟


حالة حصار , مقاطع كلمات لمحمود درويش قمة الروعة

حــــالة حصـــار
(مقاطع)

هنا، عند مُنْحَدَرات التلال، أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت،
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ،
نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،
وما يفعل العاطلون عن العمل:
نُرَبِّي الأملْ.

بلادٌ علي أُهْبَةِ الفجر. صرنا أَقلَّ ذكاءً،
لأَنَّا نُحَمْلِقُ في ساعة النصر:
لا لَيْلَ في ليلنا المتلألئ بالمدفعيَّة.
أَعداؤنا يسهرون وأَعداؤنا يُشْعِلون لنا النورَ
في حلكة الأَقبية.

هنا، بعد أَشعار أَيّوبَ لم ننتظر أَحداً...

سيمتدُّ هذا الحصارُ إلي أن نعلِّم أَعداءنا
نماذجَ من شِعْرنا الجاهليّ.

أَلسماءُ رصاصيّةٌ في الضُحي
بُرْتقاليَّةٌ في الليالي. وأَمَّا القلوبُ
فظلَّتْ حياديَّةً مثلَ ورد السياجْ.

هنا، لا أَنا
هنا، يتذكَّرُ آدَمُ صَلْصَالَهُ...

يقولُ علي حافَّة الموت:
لم يَبْقَ بي مَوْطِئٌ للخسارةِ:
حُرٌّ أَنا قرب حريتي. وغدي في يدي.
سوف أَدخُلُ عمَّا قليلٍ حياتي،
وأولَدُ حُرّاً بلا أَبَوَيْن،
وأختارُ لاسمي حروفاً من اللازوردْ...

في الحصار، تكونُ الحياةُ هِيَ الوقتُ
بين تذكُّرِ أَوَّلها.
ونسيانِ آخرِها.

هنا، عند مُرْتَفَعات الدُخان، علي دَرَج البيت،
لا وَقْتَ للوقت.
نفعلُ ما يفعلُ الصاعدون إلي الله:
ننسي الأَلمْ.

الألمْ
هُوَ: أن لا تعلِّق سيِّدةُ البيت حَبْلَ الغسيل
صباحاً، وأنْ تكتفي بنظافة هذا العَلَمْ.

لا صديً هوميريٌّ لشيءٍ هنا.
فالأساطيرُ تطرق أبوابنا حين نحتاجها.
لا صديً هوميريّ لشيء. هنا جنرالٌ
يُنَقِّبُ عن دَوْلَةٍ نائمةْ
تحت أَنقاض طُرْوَادَةَ القادمةْ

يقيسُ الجنودُ المسافةَ بين الوجود وبين العَدَمْ
بمنظار دبّابةٍ...

نقيسُ المسافَةَ ما بين أَجسادنا والقذائفِ بالحاسّة السادسةْ.

أَيُّها الواقفون علي العَتَبات ادخُلُوا،
واشربوا معنا القهوةَ العربيَّةَ
غقد تشعرون بأنكمُ بَشَرٌ مثلناف.
أَيها الواقفون علي عتبات البيوت!
اُخرجوا من صباحاتنا،
نطمئنَّ إلي أَننا
بَشَرٌ مثلكُمْ!

نَجِدُ الوقتَ للتسليةْ:
نلعبُ النردَ، أَو نَتَصَفّح أَخبارَنا
في جرائدِ أَمسِ الجريحِ،
ونقرأ زاويةَ الحظِّ: في عامِ
أَلفينِ واثنينِ تبتسم الكاميرا
لمواليد بُرْجِ الحصار.

كُلَّما جاءني الأمسُ، قلت له:
ليس موعدُنا اليومَ، فلتبتعدْ
وتعالَ غداً !

أُفكِّر، من دون جدوي:
بماذا يُفَكِّر مَنْ هُوَ مثلي، هُنَاكَ
علي قمَّة التلّ، منذ ثلاثةِ آلافِ عامٍ،
وفي هذه اللحظة العابرةْ؟
فتوجعنُي الخاطرةْ
وتنتعشُ الذاكرةْ

عندما تختفي الطائراتُ تطيرُ الحماماتُ،
بيضاءَ بيضاءَ، تغسِلُ خَدَّ السماء
بأجنحةٍ حُرَّةٍ، تستعيدُ البهاءَ وملكيَّةَ
الجوِّ واللَهْو. أَعلي وأَعلي تطيرُ
الحماماتُ، بيضاءَ بيضاءَ. ليت السماءَ
حقيقيّةٌ غقال لي رَجَلٌ عابرٌ بين قنبلتينف

الوميضُ، البصيرةُ، والبرقُ
قَيْدَ التَشَابُهِ...
عمَّا قليلٍ سأعرفُ إن كان هذا
هو الوحيُ...
أو يعرف الأصدقاءُ الحميمون أنَّ القصيدةَ
مَرَّتْ، وأَوْدَتْ بشاعرها

غ إلي ناقدٍ: ف لا تُفسِّر كلامي
بملعَقةِ الشايِ أَو بفخِاخ الطيور!
يحاصرني في المنام كلامي
كلامي الذي لم أَقُلْهُ،
ويكتبني ثم يتركني باحثاً عن بقايا منامي

شَجَرُ السرو، خلف الجنود، مآذنُ تحمي
السماءَ من الانحدار. وخلف سياج الحديد
جنودٌ يبولون ـ تحت حراسة دبَّابة ـ
والنهارُ الخريفيُّ يُكْملُ نُزْهَتَهُ الذهبيَّةَ في
شارعٍ واسعٍ كالكنيسة بعد صلاة الأَحد...

نحبُّ الحياةَ غداً
عندما يَصِلُ الغَدُ سوف نحبُّ الحياة
كما هي، عاديّةً ماكرةْ
رماديّة أَو مُلوَّنةً.. لا قيامةَ فيها ولا آخِرَةْ
وإن كان لا بُدَّ من فَرَحٍ
فليكن
خفيفاً علي القلب والخاصرةْ
فلا يُلْدَغُ المُؤْمنُ المتمرِّنُ
من فَرَحٍ ... مَرَّتَينْ!

قال لي كاتبٌ ساخرٌ:
لو عرفتُ النهاية، منذ البدايةَ،
لم يَبْقَ لي عَمَلٌ في اللٌّغَةْ

غإلي قاتلٍ:ف لو تأمَّلْتَ وَجْهَ الضحيّةْ
وفكَّرتَ، كُنْتَ تذكَّرْتَ أُمَّك في غُرْفَةِ
الغازِ، كُنْتَ تحرَّرتَ من حكمة البندقيَّةْ
وغيَّرتَ رأيك: ما هكذا تُسْتَعادُ الهُويَّةْ

غإلي قاتلٍ آخر:ف لو تَرَكْتَ الجنينَ ثلاثين يوماً،
إِذَاً لتغيَّرتِ الاحتمالاتُ:
قد ينتهي الاحتلالُ ولا يتذكَّرُ ذاك الرضيعُ زمانَ الحصار،
فيكبر طفلاً معافي،
ويدرُسُ في معهدٍ واحد مع إحدي بناتكَ
تارِيخَ آسيا القديمَ.
وقد يقعان معاً في شِباك الغرام.
وقد يُنْجبان اُبنةً (وتكونُ يهوديَّةً بالولادةِ).
ماذا فَعَلْتَ إذاً ؟
صارت ابنتُكَ الآن أَرملةً،
والحفيدةُ صارت يتيمةْ ؟
فماذا فَعَلْتَ بأُسرتكَ الشاردةْ
وكيف أَصَبْتَ ثلاثَ حمائمَ بالطلقة الواحدةْ ؟

لم تكن هذه القافيةْ
ضَرُوريَّةً، لا لضْبطِ النَغَمْ
ولا لاقتصاد الأَلمْ
إنها زائدةْ
كذبابٍ علي المائدةْ

الضبابُ ظلامٌ، ظلامٌ كثيفُ البياض
تقشِّرُهُ البرتقالةُ والمرأةُ الواعدة.

الحصارُ هُوَ الانتظار
هُوَ الانتظارُ علي سُلَّمٍ مائلٍ وَسَطَ العاصفةْ

وَحيدونَ، نحن وحيدون حتي الثُمالةِ
لولا زياراتُ قَوْسِ قُزَحْ

لنا اخوةٌ خلف هذا المدي.
اخوةٌ طيّبون. يُحبُّوننا. ينظرون إلينا ويبكون.
ثم يقولون في سرِّهم:
ليت هذا الحصارَ هنا علنيٌّ.. ولا يكملون العبارةَ:
لا تتركونا وحيدين، لا تتركونا .

خسائرُنا: من شهيدين حتي ثمانيةٍ كُلَّ يومٍ.
وعَشْرَةُ جرحي.
وعشرون بيتاً.
وخمسون زيتونةً...
بالإضافة للخَلَل البُنْيويّ الذي
سيصيب القصيدةَ والمسرحيَّةَ واللوحة الناقصةْ

في الطريق المُضَاء بقنديل منفي
أَري خيمةً في مهبِّ الجهاتْ:
الجنوبُ عَصِيٌّ علي الريح،
والشرقُ غَرْبٌ تَصوَّفَ،
والغربُ هُدْنَةُ قتلي يَسُكُّون نَقْدَ السلام،
وأَمَّا الشمال، الشمال البعيد
فليس بجغرافيا أَو جِهَةْ
إنه مَجْمَعُ الآلهةْ

قالت امرأة للسحابة: غطِّي حبيبي
فإنَّ ثيابي مُبَلَّلةٌ بدَمِهْ

إذا لم تَكُنْ مَطَراً يا حبيبي
فكُنْ شجراً
مُشْبَعاً بالخُصُوبةِ، كُنْ شَجَرا
وإنْ لم تَكُنْ شجراً يا حبيبي
فكُنْ حجراً
مُشْبعاً بالرُطُوبةِ، كُنْ حَجَرا
وإن لم تَكُنْ حجراً يا حبيبي
فكن قمراً
في منام الحبيبة، كُنْ قَمرا
غ هكذا قالت امرأةٌ
لابنها في جنازته ف

أيَّها الساهرون ! أَلم تتعبوا
من مُرَاقبةِ الضوءِ في ملحنا
ومن وَهَج الوَرْدِ في جُرْحنا
أَلم تتعبوا أَيُّها الساهرون ؟

واقفون هنا. قاعدون هنا. دائمون هنا. خالدون هنا.
ولنا هدف واحدٌ واحدٌ واحدٌ: أن نكون.
ومن بعده نحن مُخْتَلِفُونَ علي كُلِّ شيء:
علي صُورة العَلَم الوطنيّ (ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخترتَ يا شعبيَ الحيَّ رَمْزَ الحمار البسيط).
ومختلفون علي كلمات النشيد الجديد
(ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخترتَ أُغنيَّةً عن زواج الحمام).
ومختلفون علي واجبات النساء
(ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخْتَرْتَ سيّدةً لرئاسة أَجهزة الأمنِ).
مختلفون علي النسبة المئوية، والعامّ والخاص،
مختلفون علي كل شيء. لنا هدف واحد: أَن نكون ...
ومن بعده يجدُ الفَرْدُ مُتّسعاً لاختيار الهدفْ.

قال لي في الطريق إلي سجنه:
عندما أَتحرّرُ أَعرفُ أنَّ مديحَ الوطنْ
كهجاء الوطنْ
مِهْنَةٌ مثل باقي المِهَنْ !

قَليلٌ من المُطْلَق الأزرقِ اللا نهائيِّ
يكفي
لتخفيف وَطْأَة هذا الزمانْ
وتنظيف حَمأةِ هذا المكان

علي الروح أَن تترجَّلْ
وتمشي علي قَدَمَيْها الحريريّتينِ
إلي جانبي، ويداً بيد، هكذا صاحِبَيْن
قديمين يقتسمانِ الرغيفَ القديم
وكأسَ النبيذِ القديم
لنقطع هذا الطريق معاً
ثم تذهب أَيَّامُنا في اتجاهَيْنِ مُخْتَلِفَينْ:
أَنا ما وراءَ الطبيعةِ. أَمَّا هِيَ
فتختار أَن تجلس القرفصاء علي صخرة عاليةْ

غ إلي شاعرٍ: ف كُلَّما غابَ عنك الغيابْ
تورَّطتَ في عُزْلَة الآلهةْ
فكن ذاتَ موضوعك التائهةْ
و موضوع ذاتكَ. كُنْ حاضراً في الغيابْ

يَجِدُ الوقتَ للسُخْرِيَةْ:
هاتفي لا يرنُّ
ولا جَرَسُ الباب أيضاً يرنُّ
فكيف تيقَّنتِ من أَنني
لم أكن ههنا !

يَجدُ الوَقْتَ للأغْنيَةْ:
في انتظارِكِ، لا أستطيعُ انتظارَكِ.
لا أَستطيعُ قراءةَ دوستوي÷سكي
ولا الاستماعَ إلي أُمِّ كلثوم أَو ماريّا كالاس وغيرهما.
في انتظارك تمشي العقاربُ في ساعةِ اليد نحو اليسار...
إلي زَمَنٍ لا مكانَ لَهُ.
في انتظارك لم أنتظرك، انتظرتُ الأزَلْ.

يَقُولُ لها: أَيّ زهرٍ تُحبِّينَهُ
فتقولُ: القُرُنْفُلُ .. أَسودْ
يقول: إلي أَين تمضين بي، والقرنفل أَسودْ ؟
تقول: إلي بُؤرة الضوءِ في داخلي
وتقولُ: وأَبْعَدَ ... أَبْعدَ ... أَبْعَدْ

سيمتدُّ هذا الحصار إلي أَن يُحِسَّ المحاصِرُ، مثل المُحَاصَر،
أَن الضَجَرْ
صِفَةٌ من صفات البشرْ.

لا أُحبُّكَ، لا أكرهُكْ ـ
قال مُعْتَقَلٌ للمحقّق: قلبي مليء
بما ليس يَعْنيك. قلبي يفيض برائحة المَرْيَميّةِ.
قلبي بريء مضيء مليء،
ولا وقت في القلب للامتحان. بلي،
لا أُحبُّكَ. مَنْ أَنت حتَّي أُحبَّك؟
هل أَنت بعضُ أَنايَ، وموعدُ شاي،
وبُحَّة ناي، وأُغنيّةٌ كي أُحبَّك؟
لكنني أكرهُ الاعتقالَ ولا أَكرهُكْ
هكذا قال مُعْتَقَلٌ للمحقّقِ: عاطفتي لا تَخُصُّكَ.
عاطفتي هي ليلي الخُصُوصيُّ...
ليلي الذي يتحرَّكُ بين الوسائد حُرّاً من الوزن والقافيةْ !

جَلَسْنَا بعيدينَ عن مصائرنا كطيورٍ
تؤثِّثُ أَعشاشها في ثُقُوب التماثيل،
أَو في المداخن، أو في الخيام التي
نُصِبَتْ في طريق الأمير إلي رحلة الصَيّدْ...

علي طَلَلي ينبتُ الظلُّ أَخضرَ،
والذئبُ يغفو علي شَعْر شاتي
ويحلُمُ مثلي، ومثلَ الملاكْ
بأنَّ الحياةَ هنا ... لا هناكْ

الأساطير ترفُضُ تَعْديلَ حَبْكَتها
رُبَّما مَسَّها خَلَلٌ طارئٌ
ربما جَنَحَتْ سُفُنٌ نحو يابسةٍ
غيرِ مأهولةٍ،
فأصيبَ الخياليُّ بالواقعيِّ،
ولكنها لا تغيِّرُ حبكتها.
كُلَّما وَجَدَتْ واقعاً لا يُلائمها
عدَّلَتْهُ بجرَّافة.
فالحقيقةُ جاريةُ النصِّ، حَسْناءُ،
بيضاءُ من غير سوء ...

غ إلي شبه مستشرق: ف ليكُنْ ما تَظُنُّ.
لنَفْتَرِضِ الآن أَني غبيٌّ، غبيٌّ، غبيٌّ.
ولا أَلعبُ الجولف.
لا أَفهمُ التكنولوجيا،
ولا أَستطيعُ قيادةَ طيّارةٍ!
أَلهذا أَخَذْتَ حياتي لتصنَعَ منها حياتَكَ؟
لو كُنْتَ غيرَكَ، لو كنتُ غيري،
لكُنَّا صديقين يعترفان بحاجتنا للغباء.
أَما للغبيّ، كما لليهوديّ في تاجر البُنْدُقيَّة
قلبٌ، وخبزٌ، وعينان تغرورقان؟

في الحصار، يصير الزمانُ مكاناً
تحجَّرَ في أَبَدِهْ
في الحصار، يصير المكانُ زماناً
تخلَّف عن أَمسه وَغدِهْ

هذه الأرضُ واطئةٌ، عاليةْ
أَو مُقَدَّسَةٌ، زانيةْ
لا نُبالي كثيراً بسحر الصفات
فقد يُصْبِحُ الفرجُ، فَرْجُ السماواتِ،
جغْرافيةْ !

أَلشهيدُ يُحاصرُني كُلَّما عِشْتُ يوماً جديداً
ويسألني: أَين كُنْت ؟ أَعِدْ للقواميس كُلَّ الكلام الذي كُنْتَ أَهْدَيْتَنِيه،
وخفِّفْ عن النائمين طنين الصدي

الشهيدُ يُعَلِّمني: لا جماليَّ خارجَ حريتي.

الشهيدُ يُوَضِّحُ لي: لم أفتِّشْ وراء المدي
عن عذاري الخلود، فإني أُحبُّ الحياةَ
علي الأرض، بين الصُنَوْبرِ والتين،
لكنني ما استطعتُ إليها سبيلاً، ففتَّشْتُ
عنها بآخر ما أملكُ: الدمِ في جَسَدِ اللازوردْ.

الشهيدُ يُحاصِرُني: لا تَسِرْ في الجنازة
إلاّ إذا كُنْتَ تعرفني. لا أُريد مجاملةً
من أَحَدْ.

الشهيد يُحَذِّرُني: لا تُصَدِّقْ زغاريدهُنَّ.
وصدّق أَبي حين ينظر في صورتي باكياً:
كيف بدَّلْتَ أدوارنا يا بُنيّ، وسِرْتَ أَمامي.
أنا أوّلاً، وأنا أوّلاً !

الشهيدُ يُحَاصرني: لم أُغيِّرْ سوي موقعي وأَثاثي الفقيرِ.
وَضَعْتُ غزالاً علي مخدعي،
وهلالاً علي إصبعي،
كي أُخفِّف من وَجَعي !

سيمتدُّ هذا الحصار ليقنعنا باختيار عبوديّة لا تضرّ، ولكن بحريَّة كاملة!!.

أَن تُقَاوِم يعني: التأكُّدَ من صحّة
القلب والخُصْيَتَيْن، ومن دائكَ المتأصِّلِ:
داءِ الأملْ.

وفي ما تبقَّي من الفجر أَمشي إلي خارجي
وفي ما تبقّي من الليل أسمع وقع الخطي داخلي.

سلامٌ علي مَنْ يُشَاطرُني الانتباهَ إلي
نشوة الضوءِ، ضوءِ الفراشةِ، في
ليل هذا النَفَقْ.

سلامٌ علي مَنْ يُقَاسمُني قَدَحي
في كثافة ليلٍ يفيض من المقعدين:
سلامٌ علي شَبَحي.

غ إلي قارئ: ف لا تَثِقْ بالقصيدةِ ـ
بنتِ الغياب. فلا هي حَدْسٌ، ولا
هي فِكْرٌ، ولكنَّها حاسَّةُ الهاويةْ.

إذا مرض الحبُّ عالجتُهُ
بالرياضة والسُخْريةْ
وَبفصْلِ المُغنِّي عن الأغنيةْ

أَصدقائي يُعدُّون لي دائماً حفلةً
للوداع، وقبراً مريحاً يُظَلِّلهُ السنديانُ
وشاهدةً من رخام الزمن
فأسبقهم دائماً في الجنازة:
مَنْ مات.. مَنْ ؟

الحصارُ يُحَوِّلني من مُغَنٍّ الي . . . وَتَرٍ سادس في الكمانْ!

الشهيدةُ بنتُ الشهيدةِ بنتُ الشهيد وأختُ الشهيدِ
وأختُ الشهيدةِ كنَّةُ أمِّ الشهيدِ حفيدةُ جدٍّ شهيد
وجارةُ عمِّ الشهيد غالخ ... الخ ..ف
ولا نبأ يزعج العالَمَ المتمدِّن،
فالزَمَنُ البربريُّ انتهي.
والضحيَّةُ مجهولَةُ الاسم، عاديّةٌ،
والضحيَّةُ ـ مثل الحقيقة ـ نسبيَّةٌ و غ الخ ... الخ ف

هدوءاً، هدوءاً، فإن الجنود يريدون
في هذه الساعة الاستماع إلي الأغنيات
التي استمع الشهداءُ إليها، وظلَّت كرائحة
البُنّ في دمهم، طازجة.

هدنة، هدنة لاختبار التعاليم: هل تصلُحُ الطائراتُ محاريثَ ؟
قلنا لهم: هدنة، هدنة لامتحان النوايا،
فقد يتسرَّبُ شيءٌ من السِلْم للنفس.
عندئذٍ نتباري علي حُبِّ أشيائنا بوسائلَ شعريّةٍ.
فأجابوا: ألا تعلمون بأن السلام مع النَفْس
يفتح أبوابَ قلعتنا لِمقَامِ الحجاز أو النَهَوَنْد ؟
فقلنا: وماذا ؟ ... وَبعْد ؟

الكتابةُ جَرْوٌ صغيرٌ يَعَضُّ العَدَمْ
الكتابةُ تجرَحُ من دون دَمْ..

فناجينُ قهوتنا. والعصافيرُ والشَجَرُ الأخضرُ
الأزرقُ الظلِّ. والشمسُ تقفز من حائط
نحو آخرَ مثل الغزالة.
والماءُ في السُحُب اللانهائية الشكل في ما تبقَّي لنا
من سماء. وأشياءُ أخري مؤجَّلَةُ الذكريات
تدلُّ علي أن هذا الصباح قويّ بهيّ،
وأَنَّا ضيوف علي الأبديّةْ.


كلمات رائعة جدا لمحمود درويش: أثر الفراشة

أَثر الفراشة
 
أَثر الفراشة لا يُرَى
أَثر الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيّةُ غامضٍ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيلُ
هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ
أشواقٌ إلى أَعلى
وإشراقٌ جميلُ
هو شامَةٌ في الضوء تومئ
حين يرشدنا الى الكلماتِ
باطننا الدليلُ
هو مثل أُغنية تحاولُ
أن تقول، وتكتفي
بالاقتباس من الظلالِ
ولا تقولُ...
أَثرُ الفراشة لا يُرَى
أُثرُ الفراشة لا يزولُ!
أَنت، منذ الآن، أَنت
الكرملُ في مكانه السيِّد... ينظر من علٍ إلى
البحر. والبحر يتنهَّد، موجةً موجةً، كامرأةٍ
عاشقةٍ تغسل قَدَميْ حبيبها المتكبِّر!
*
كأني لم أذهب بعيداً. كأني عُدتُ من
زيارة قصيرة لوداع صديقٍ مسافر، لأجد
نفسي جالسة في انتظاري على مقعد حجري
تحت شجرة تُفَّاح.
*
كل ما كان منفى يعتذر، نيابةً عني،
لكُلّ ما لم يكن منفى!
*
ألآن، الآن... وراء كواليس المسرح،
يأتي المخاض الى عذراء في الثلاثين،
وتلدني على مرأى من مهندسي الديكور،
والمصوِّرين!
*
جرت مياه كثيرة في الوديان والأنهار.
ونبتت أعشاب كثيرة على الجدران. أَمَّا
النسيان فقد هاجر مع الطيور المهاجرة...
شمالاً شمالاً.
*
ألزمن والتاريخ يتحالفان حيناً، ويتخاصمان
حيناً على الحدود بينهما. الصفصافةُ العاليةُ
لا تأبه ولا تكترث. فهي واقفة على
قارعة الطريق.
*
أَمشي خفيفاً لئلاَّ أكسر هشاشتي. وأَمشي
ثقيلاً لئلاَّ أَطير. وفي الحالين تحميني
الأرض من التلاشي في ما ليس من صفاتها!
*
في أَعماقي موسيقى خفيَّة، أَخشى عليها
من العزف المنفرد.
*
ارتكبتُ من الأخطاء ما يدفعني، لإصلاحها،
إلى العمل الإضافيّ في مُسَوَّدة الإيمان
بالمستقبل. من لم يخطئ في الماضي لا
يحتاج الى هذا الإيمان.
*
جبل وبحر وفضاء. أطير وأسبح، كأني
طائرٌ جوّ – مائي. كأني شاعر!
*
كُلُّ نثر هنا شعر أوليّ محروم من صَنعَة الماهر.
وكُلُّ شعر، هنا، نثر في متناول المارة.
بكُلِّ ما أُوتيتُ من فرح، أُخفي دمعتي
عن أوتار العود المتربِّص بحشرجتي، والمُتَلصِّص
على شهوات الفتيات.
*
ألخاص عام. والعام خاص... حتى إشعار
آخر، بعيد عن الحاضر وعن قصد القصيدة!
*
حيفا! يحقّ للغرباء أن يحبُّوكِ، وأن ينافسوني
على ما فيك، وأن ينسوا بلادهم في
نواحيك، من فرط ما أنت حمامة تبني عُشَّها
على أنف غزال!
*
أنا هنا. وما عدا ذلك شائعة ونميمة!
*
يا للزمن! طبيب العاطفيين... كيف يُحوِّل
الجرح ندبة، ويحوِّل الندبة حبَّة سمسم.
أنظر الى الوراء، فأراني أركض تحت المطر. هنا،
وهنا، وهنا. هل كنتُ سعيداً دون أن أدري؟
*
هي المسافة: تمرين البصر على أعمال البصيرة،
وصقلُ الحديد بنايٍ بعيد.
*
جمال الطبيعة يهذِّب الطبائع، ما عدا طبائع مَنْ
لم يكن جزءاً منها. الكرمل سلام. والبندقية نشاز.
*
على غير هُدىً أمشي. لا أبحث عن شيء. لا
أبحث حتى عن نفسي في كل هذا الضوء.
*
حيفا في الليل... انصراف الحواس الى أشغالها
السرية، بمنأى عن أصحابها الساهرين على الشرفات.
*
يا للبداهة! قاهرة المعدن والبرهان!
*
أُداري نُقَّادي، وأُداوي جراح حُسَّادي على
حبِّ بلادي... بزِحافٍ خفيف، وباستعارة
حمَّالةِ أِوجُه!
*
لم أَرَ جنرالاً لأسأله: في أيّ عامٍ قَتَلتَنِي؟
لكني رأيتُ جنوداً يكرعون البيرة على الأرصفة.
وينتظرون انتهاء الحرب القادمة، ليذهبوا الى
الجامعة لدراسة الشعر العربي الذي كتبه موتى
لم يموتوا. وأَنا واحد منهم!
*
خُيِّل لي أن خُطَايَ السابقة على الكرمل هي
التي تقودني الى «حديقة الأم»، وأَن
التكرار رجع الصدى في أُغنية عاطفية لم تكتمل،
من فرط ما هي عطشى الى نقصان متجدِّد!
*
لا ضباب. صنوبرة على الكرمل تناجي أَرزة
على جبل لبنان: مساء الخير يا أُختي!
*
أعبُرُ من شارع واسع إلى جدار سجني
القديم، وأقول: سلاماً يا مُعلِّمي الأول في
فقه الحرية. كُنتَ على حق: فلم يكن الشعر
بريئاً!


من ديوان '' أثر الفراشة '': الحياة... حتى آخر قطرة

الحياة... حتى آخر قطرة
 
وإن قيل لي ثانيةً: ستموت اليوم،
فماذا تفعل؟ لن أَحتاج الى مهلة للرد:
إذا غلبني الوَسَنُ نمتُ. وإذا كنتُ
ظمآنَ شربتُ. وإذا كنتُ أكتب، فقد
يعجبني ما أكتب وأتجاهل السؤال. وإذا
كنت أتناول طعام الغداء، أضفتُ إلى
شريحة اللحم المشويّة قليلاً من الخردل
والفلفل. وإذا كنتُ أُحلق، فقد أجرح
شحمة أذني. وإذا كنتُ أقبِّل صديقتي،
التهمتُ شفتيها كحبة تين. وإذا كنت
أقرأ قفزت عن بعض الصفحات. وإذا
كنتُ أقشِّر البصل ذرفتُ بعض الدموع.
وإذا كنتُ أمشي واصلتُ المشي بإيقاع
أبطأ. وإذا كنتُ موجوداً، كما أنا الآن،
فلن أفكِّر بالعدم. وإذا لم أكن موجوداً،
فلن يعنيني الأمر. وإذا كنتُ أستمع الى
موسيقى موزارت، اقتربتُ من حيِّز
الملائكة. وإذا كنتُ نائماً بقيتُ نائماً
وحالماً وهائماً بالغاردينيا. وإذا كنتُ
أضحك اختصرتُ ضحكتي الى النصف احتراماً
للخبر. فماذا بوسعي أن أفعل؟ ماذا
بوسعي أن أفعل غير ذلك، حتى لو
كنتُ أشجع من أحمق، وأقوى من
هرقل؟



من ديوان '' أثر الفراشة '': شال حرير

شال حرير
 
شال على غصن شجرة. مرَّت فتاةٌ من هنا،
أو مرّت ريح بدلاً منها، وعلَّقت شالها على
الشجرة. ليس هذا خبراً. بل هو مطلع
قصيدة لشاعر متمهِّل أَعفاه الحُبُّ من الأَلم،
فصار ينظر اليه – عن بعد – كمشهد
طبيعةٍ جميل. وضع نفسه في المشهد:
الصفصافة عالية، والشال من حرير. وهذا
يعني أن الفتاة كانت تلتقي فتاها في
الصيف، ويجلسان على عشب ناشف. وهذا
يعني أيضاً أنهما كانا يستدرجان العصافير
إلى عرس سري، فالأفق الواسع أمامهما،
على هذه التلة، يغري بالطيران، ربما قال
لها: أَحنُّ اليك، وأَنتِ معي، كما لو
كنتِ بعيدة. وربما قالت له: أَحضنكَ،
وأَنت بعيد، كما لو كنتَ نهديَّ. وربما
قال لها: نظرتك إليَّ تذوِّبني، فأصير
موسيقى. وربما قالت له: ويدك على
ركبتي تجعل الوقت يَعرَق، فافْرُكْني لأذوب...
واسترسل الشاعر في تفسير شال الحرير،
دون أن ينتبه الى أن الشال كان غيمة
تعبر، مصادفة، بين أغصان الشجر عند
الغروب.